بعيداً عن التشنج والتشدد والتراخي واللامبالاة التي يتنازع طرفاها فيه الجدل عن حُرمة أو جواز كشف الوجه للمرأة، والتي تشغل المجتمع كل فترة بعد أن يتحدث فيها أحدهم عنه بالعلن، ليثير بعدها موجة من النقاش المحموم الخالي في أغلبه من أدبيات الحوار والمليء بالقذف والشتم والتخوين والدياثة أو التنطع.
لو آمنا على الأقل بأحقية صاحبة الشأن في الاختيار وهي المرأة، والتي من ارتأت منهن الحجاب (وهو فرض) فلتتحجب مع احترام خيارها، أما من شاءت أن تنتقبت وتخفي وجهها بالطريقة والشكل والنمط الذي تراه مناسباً فلها ذلك، ولكن دون أن يفرض أي منهما رأيه على الآخر ودون أن يصل حد الاختلاف في الممارسة لأن يتسبب في جعل فئةٍ ضالة تدعو للانحلال أو أخرى متطرفة تنفر الناس في دينهم؛ واعفونا من التنطع والنقاش العقيم والعادات البالية والتحرر المذموم، التي باتت جميعها تظهر لنا كم المجتمع بحاجة إلى إعادة صياغة أديباته، ومراجعة شاملة لعاداته وتقاليده وثقافة تقبله للآخر.
الحجر على العقول باسم الدين لفرض رأي في أمر اختلف به العلماء هو أحد أسباب حالة نفور العامة ممن يرى أنه الصواب وهو الوحيد صاحب العفة، كما هو وفي نفس الوقت مدعاة لعدم تقبل بعض أصحاب الرأي المتحرر والذين خلطوا في دعواهم لاحترام حقوق المرأة ما بين قدسية الحرية الفردية والالتزام بالواجبات الدينية المسلمة التي لا تقبل النقاش، ويجب الأخذ بها كما هي.
الحجاب بذاته للمرأة فرض ولا شك فيه أو جدال ووفق الضوابط الشرعية المؤطرة وبدون أن يُفتن مع الالتزام فيه باللبس والمظهر, كما هو الأمر الذي نتجاهله ويجب الدعوة له بوجوب غض البصر والعفة للرجل, إنما النقاش المفروض تواجده هو حول النقاب ومدى وجوبه وهل هو خيار شخصي أم واجب وهنا الاختلاف الوارد والمعروف بين علماء الأمة، ولست في مكانة من العلم الشرعي لمناقشته، كما أنه أشبع بحثاً وتمحيصاً وما تم التوصل إليه والفتوى بشأنه معلومة للجميع وعلى المرء أن يستفتي قلبه فيما يشاء اتباعه.
المشكلة وبعيداً عن العامة من المسلمين أصبحت في بعض أهل الفتوى والمشورة الدينية من مختلفي الأطياف، حيث تحولت نقاشاتهم في أمور دينية لساحة لفرض العضلات وتتفيه الآخر وتقزيمه وتفسيقه وتضليله لمجرد الاختلاف برأي فقهي مختلف عليه.
حملات للأسف لا أخلاقية ومنفرة تعرض لها البعض بدعوى نقلهم لفتاوى أجازت للمرأة كشف وجهها؛ في حين يتغاضى هؤلاء ممن أثار حفيظتهم الأمر عن ما تتعرض له الأمة من قتل وتنكيل وحرب لتدمير أخلاقياتها، فيما البعض منهم ما زال على انشغاله بالتحريم والتحليل، والاستصغار من العامة وفرض التبعية عليهم دون مناقشتهم أو محاولة استطلاع آرائهم متناسين أننا الآن نعيش بعالم مفتوح، ومتاح به جميع وسائل التواصل والحصول على المعلومة دون جهد يذكر.
أتمنى من بعض علمائنا الأفاضل وهم الأقلية بالطبع مجارات العصر والتوقف عن حجر العقول، فالإسلام وهو الحنيف وخاتم الأديان وناسخها واف بكمال خالقه سبحانه وتعالى وسيبقى دوماً الأشمل لجميع مناحي الحياة والأصلح لكل الأزمنة بحكمته كدين وعدله ووسطيته وبعده عن التشدد، كما نبذه وتحريمه وتجريمه للتراخي والتحرر والسفور والضلال.