باديء ذي بدء يحسن أن أقرر هنا بأنني لست بطالب علم ولا حتى طويلب علم، وكم كان يشرفني لو كنت كذلك، فهل بعد الانتساب لأشرف و أسمى العلوم من شرف؟ الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (33) سورة فصلت. يذكر العلماء أنه «لا أحسن» في تفسيرهم لمعنى هذه الآية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بلّغوا عني و لو آية)
إن الذي دعاني للتنبيه بخصوص هذا الأمر الذي كثر الحديث حوله، والخوض فيه قريبا، هو الرغبة في الدلالة على الخير، والرغبة في ما عند الله من الأجر, وبيان أنه ليس «كل مجتهد مصيب» وإنما «لكل مجتهد نصيب». أحد الأخوة على سبيل المثال ذكر الآية الكريمة في سورة النور {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} (60) سورة النور. كعنوان في معرض تبريره جواز كشف المرأة وجهها لغير المحارم, وأنها مسالة خلافية
ولو تأمل الآية ملياً لوجد أنها مختصة بالقواعد من النساء و معلوم أن القواعد يقصد بهن العجائز {اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} (60) سورة النور. وهي رخصة خاصة بهن لعوامل عدة لا تخفى ولها شروطها.
شابه أخونا عندما اجتزأ الآية الكريمة و لم يراع مدلولها و سياقها العام كمن قرأ {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ} (43) سورة النساء. و توقف و لم يكمل {وَأَنتُمْ سُكَارَى} (43) سورة النساء. والآخر في {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} (4) سورة الماعون. و تكملتها كما هو معلوم للجميع {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } (5) سورة الماعون.
والسورتان العظيمتان النور والأحزاب تعرّفان بأنهما من سُور الآداب، والعلماء الأجلاء الذين أُمرنا أن نرجع لهم في مسائل الفتوى يستقون أدلتهم وبراهينهم من معين هذا الكتاب العظيم - الذي بين دفتيه توجد هاتان السورتان- ومن معين السنة النبوية المطهرة.
انطلاقاً من هذا المبدأ الراسخ سأذكر لأحبابي أقوال علمين من علماء المسلمين المعاصرين، لهما من القبول عند جم غفير من الناس الشيء الكثير، وهما فضيلة الشيخ علي الطنطاوي وفضيلة الشيخ بكر أبو زيد رحمهما الله وأسكنهما الفردوس الأعلى من الجنة.
ما ذكره الشيخ بكر، وكان عضواً في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ورد في كتاب «حراسة الفضيلة» ضمن السلسة العلمية التي يصدرها جهاز الإرشاد والتوجيه بالحرس الوطني. يقول عنه مؤلفه رحمه الله في مقدمة الطبعة الرابعة عام 1421هـ بأن عدد ما طبع منه نحو500000 نسخة خلال شهرين وما زال الطلب عليه مستمراً, ويؤكد على أن هذه الرسالة انتخلها واستخلصها من نحو مئتي كتاب -200- ورسالة ومقالة عن المرأة عدا كتب التفسير والحديث والفقه ونحوها.
يقول في المقدمة - رحمه الله - لابد من كلمة حق ترفع الضيم عن نساء المؤمنين، وتدفع شر المستغربين المعتدين على الدين والأمة، وتعلن التذكير بما تعبّد الله به نساء المؤمنين من فرص الحجاب، وحفظ الحياء, والعفة والاحتشام والغيرة،على المحارم والتحذير مما حرمه الله ورسوله من حرب الفضيلة بالتبرج والسفور والاختلاط.
ويستطرد الشيخ مكرراً من خلال كتابه القيم أن هذه الفتنة وهي التبرج والسفور ونزع الحجاب، لم تحدث إلا مؤخراً أي في منتصف القرن الرابع عشر الهجري، ويحذّر عبر الكتاب وفصْليه الذين حريٌ بكل مسلم ومسلمة غيورين على دينهما أن يطّلعا عليه ويتأملانه ويعملان به لما فيه من فوائد جمة.
المآلات والعواقب التي تنتج عن التهتك والتبذل التي يحذر منها الشيخ بكر أبو زيد ويعول عليها الأعداء في هدم قيم وأخلاقيات المجتمعات الإسلامية يصورها الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله عبر ذكرياته قائلاً: أننا لانقبل تكشف البنات، واختلاطهن بالرجال، واختلاط الرجال بهن أبداً, مهما كان السبب الذي يتذرع به هؤلاء.
هذه هي أعرافنا. وهذه هي أحكام ديننا. وهذه هي سلائق عروبتنا. إن الكثرة من أهل هذا الإقليم «سورية» من المسلمين الذين يحرّم عليهم دينهم كشف شيء من جسد المرأة للأجنبي، وليس الأجنبي الأنكليزي والأمريكي والروسي فقط، بل الأجنبي في نظر الشرع كل من لم يكن محرماً للمرأة، فابن عمها أجنبي عنها،وابن خالها، وابن خالتها، وزوج أختها, فضلاً عن من لم يكن قريباً لها.
والذين يدينون بالنصرانية من أهل هذا الإقليم تحرّم عليهم نصرانيتهم التبرج والتكشف والاختلاط، كما يحرّمه على المسلم إسلامه. وكلهم عرب. وأظهر سمات العروبة الغيْرة على الأعراض، والإغراق في صيانة النساء، وليس في الدنيا عربي لايغار على حرمه، ولا يصون عرضه وشرفه.
العرب؟ إن العرب أغيْرُ الناس على الأعراض، وإن كلمة العرض في لسانهم لا يقابلها كلمة في ألسن الأمم تترجم بها. المسلمون؟ إن الإسلام أمر بغض البصر وستر العورة ولعن الناظر إليها والمنظور.
كان أعداء الحجاب يقولون إن اللواط والسحاق، وتلك الانحرافات الجنسية سببها حجب النساء، ولو مزقتم هذا الحجاب وألقيتموه لخلصتم منها، ورجعتم إلى الطريق القويم. وكنا من غفلتنا ومن صفاء نفوسنا نصدقهم، ثم لما عرفناهم وخبرنا خبرهم، ظهر لنا أن القائلين بهذا أكذب من مسيلمة.
إن كان الحجاب مصدر هذا الشذوذ، فخبروني هل نساء ألمانيا وبريطانيا محجبات الحجاب الشرعي؟ فكيف إذًا نرى هذا الشذوذ منتشر بينهم حتى سنوا له قانوناً يجعله من المباحات.
وفي موضع آخر من الذكريات يتساءل الشيخ الطنطاوي رحمه الله قائلاً: هل تعرفون ماذا يسمى الذي يجمع الجنسين من غير عقد زواج؟ لا أوجه هذا الحديث للمسلم وحده، بل لكل من قال أنا عربي، لأن من صفات العربي الذي تقوم عليه عروبته، الشهامة والغيرة على الأعراض ومن ادّعى العربية ولم تكن له على العرض غيرة، ولم يغضب لحرمهِ، فهذا كذاب دعيّ ليس بعربي. وسيقول عني ناس من القراء هذا رجل معروف بالدعوة إلى الرجعية فلا تسمعوا له، إنه يريد أن يعود بنا إلى الوراء، ونحن نريد أن نتقدم إلى الأمام. وهذا كلام لا يناقش، إنما يناقش كلام مؤيد بحجة، إنما يسمع اعتراض قائم على منطق، إنما يقرع الدليل بالدليل فهل في هذا الكلام من حجة أو منطق أو دليل؟ أنا أدعو إلى مناظرتي كل مخالف لي، على أن يكون في رأسه عقل، وفي يده قلم، أو في فمه لسان. أما الذين حفظوا كلماتهم يرددونها كالببغاوات، لا يحاولون فهمها، فلا شأن لي معهم ولا وقوف لي عليهم.
وأنا لا أقصد بلداً بذاته بل أتكلم عن جميع البلدان ومنها ما مسه طرف من لهب هذه النار، أو أصابه نفحة من حرها، أو أذىً من دخانها، وإن كانت المملكة هنا لا تزال بحمد الله خيراً من غيرها، ولا يزال لواء الدين فيها مرفوعاً، وصوته مسموعاً، ولكن على كل صحيح الجسد أن يتخذ أسباب الوقاية من المرض، وأن يسأل الله النجاة منه. والدين لا يمنع من الأخذ بأسباب القوة ومجارات الأمم في ميدانها، ولا يحول بيننا وبين النافع من نتاج الفكر, ولا من ثمرات الحضارة.
ومن عرف هذه البلاد قبل خمسين سنة كما عرفتها، ورأى ما وصلت إليه الآن في كل ميدان من غير أن تفرّط في شيء من عقائدها، أو تدع كثيراً من فضائلها وسلائقها، أدرك أن من أرد الجمع بين التمسك بالدين الذي يكون به النجاة في الآخرة، وبين أعلى درجات التمدن والحضارة، التي يكون بها السمو والفخار في الدين، وجده سهلاً ممكناً.