سيرة النبي - صلى الله عليه وسلَّم - وهديه تمثلان أبلغ الموازين في قياس سلامة الدين والاعتقاد الصحيح والنجاة من مسالك الانحراف، كيف وقد جعل الله تعالى نبيه قدوة الناس أجمعين: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (21) سورة الأحزاب، وجعل اتباعه هو السبيل لتحقيق الهدى ومحبة الله تعالى: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (54) سورة النور. {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} (31) سورة آل عمران، ومن هنا فقد كان حرص المسلمين عظيماً منذ صدر الإسلام في تقييد سيرته - صلى الله عليه وسلَّم - في أقواله وأفعاله بل في كل حركاته وسكناته وذلك من أجل الامتثال والاتباع واستخلاص العبر والدروس.
فمن المواقف التي تكررت في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلَّم - وكانت تمثل منهجاً نبوياً في القضايا العامة حرصه - صلى الله عليه وسلَّم - على سمعة الإسلام، وتنزيهه عن الأقوال والأفعال التي قد تتسبب في تشويهه أو وصمه بصفات هو منها بريء.
لقد كان هذا المنهج النبوي واضحاً وجليّاً لكل من تأمل في السيرة العطرة، والأمثلة عليه متعددة، فمن ذلك تعامله - صلى الله عليه وسلَّم - مع بعض تجاوزات المنافقين الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام ويعيشون في جنبات المدينة من أمثال عبد الله بن أبي بن سلول وصحبه؛ فرغم ما كان يصدر عنهم من مواقف الخيانة العظمى، التي جعلت نفراً من الصحابة يطالبون النبي - صلى الله عليه وسلَّم - بقتلهم في أكثر من مرة، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلَّم - كان لا يجيبهم إلى ذلك ويتغاضى عن قتل هؤلاء معللاً ذلك بقوله: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) رواه البخاري ومسلم.
ويتكرر الموقف مرة أخرى في واقعة الرجل الذي اعترض على قسمة النبي - صلى الله عليه وسلَّم - وقال: اعدل يا محمد!، فقال النبي - صلى الله عليه وسلَّم - : (ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟! لقد خبت وخسرت إن لم أعدل)، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ألا أقوم فأقتل هذا المنافق؟ قال: (معاذ الله أن تتسامع الأمم أن محمداً يقتل أصحابه)، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلَّم - : (إن هذا وأصحاباً له يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم) رواه أحمد وأصله في صحيح البخاري.
فهذه السياسة النبوية الراشدة سببها أن المجتمع المحيط بالمسلمين في تلك الفترة كان يشاهد هذا الدين الجديد وهذه الدولة الوليدة بنظرة الحذر والترقب، بل والترصد لقرارات قائدها وتعاملاته، بل وصل الحد بهم إلى أن بحثوا في سيرة هذا القائد في مولده ونشأته وطبيعة أخلاقه وسلوكه، بل وحتى نسبه وتاريخ أجداده، كما جاء في الحوار الشهير بين أبي سفيان زعيم قريش وهرقل ملك الروم.
وفي ضوء ذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلَّم - يدرك أن الناس من حوله لن يتفهموا سبب الحكم بالإعدام الذي تقضي به نصوص قوانين الدول في - عصرنا الحاضر - نحو من يخونها من رعاياها، فترك ذلك رعايةً لمصلحة أعلى وهي حماية سمعة الرسالة الخالدة التي كلفه الله بإبلاغها للناس جميعاً.
ولم يزل النبي - صلى الله عليه وسلَّم - محافظاً على منهجية حماية سمعة الإسلام، وبخاصة لدى التعامل مع الدول وأهل الملل الأخرى، فكان - صلى الله عليه وسلَّم - يوصي من يعينهم من القادة والسفراء ومن يتفاوض مع غير المسلمين بقوله: «إذا أرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله» رواه مسلم.
قال العلماء: معنى «تخفروا ذممكم» أي تنقضوا عهدكم لهم، والمعنى لا تجعلوا العهد منسوباً إلى الله أو إلى نبيه فإنه قد ينقضه من لا يعرف حقه وحرمته من بعض المنتسبين لكم، وليكن العهد باسم القائد حتى يكون هو مسؤولاً عنه.
هذا هو المنهج النبوي الصحيح في حماية سمعة الإسلام وتنزيهه عن كل ما يمكن أن يسوءه أو يشوه سمعته، فليت شعري أين هذا عن منهج الحركات المتطرفة الغالية التي تنتسب للإسلام زوراً وبهتاناً وهي تطعن فيه وتشوه صورته السليمة النقية التي نزلت من عند الله تعالى.
أين حماية سمعة الإسلام يا من تصورون قتلكم للناس وسفك الدماء والتمثيل بالقتلى؟!.
أين رعاية صورة الإسلام يا من تنكلون بالأسرى وتتهجمون عليهم وتسيئون معاملتهم؟!.
لو كان هؤلاء الذي قتلتموهم أو أسرتموهم مخطئين ما جاز لكم هذا الصنيع، فكيف تفعلونه فيمن فعله بتأويل أو شبهة أو غير ذلك، فكيف إن كان الفاعل مؤمناً ينطق كلمة التوحيد، بأي شرع أو عقل يتصرف مثل هؤلاء؟!، وأين هم عن مثل قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما).
إن سلوك مثل هؤلاء من أعظم ما يخدم به أصحاب الحملات الجائرة لتشويه حضارة الأمة الإسلامية وتاريخها، والتي يتبناها اليوم أقوام جعلوا هدفهم الأكبر الصد عن دين الإسلام ومنع الناس من تقبله، وسلكوا في سبيل ذلك مسلك التشويه والافتراء، مستغلين أخطاء بعض من ينتسبون للإسلام، فراحوا يسخرون لها وسائل الإعلام والاتِّصال ليؤكدوا للعالم مزاعمهم نحو الإسلام ونحو نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام.
إن ذلك كله ليفرض علينا أهل الإسلام أن نجعل من أولويات التعامل مع غير المسلمين مبدأ: (حماية سمعة الإسلام) و(حماية سمعة النبي - صلى الله عليه وسلَّم - ) وأن نوضح الصورة الحقيقية للإسلام وأن نعرّف بهدي نبينا - صلى الله عليه وسلَّم - الذي قال الله فيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، والله الهادي إلى سواء السبيل.
د. رياض بن حمد العُمري - الاستاذ المساعد بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة - بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية