- تأليف: الأديب علوي طه الصافي
- تقديم الدكتور عبدالله الغذامي
قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف (بنت الأعشى)
هناك علاقة وثيقة وطيدة بين فن المقالة وفن القصة، وقد برع فيه أدباء من القديم والحديث وحينما نتحدث عن فن المقالة القصصية ينصرف الذهن إلى الأديب العباسي الكبير الجاحظ، فهو ممن أبدع وابتكر في هذا الفن، بل إنه ممن قدم المفاتيح السرية السحرية لهذا النوع الأدبي الفريد والذي يتسم بالمتعة والأنس واللذة، تتضح مقالاته القصصية في كتبه عامة وفي البيان والتبيين والحيوان خاصة، والمطلع على هذين المنهلين يلمح تحكم الجاحظ بفن المقالة القصصية وأخذها بزمام قيادتها تجربة وإبداعاً وتحليلاً فقد استخدم هذا المنهج المقالي القصصي في كتبه الأدبية، كما أسلفت لك هذه المعلومة قبل قليل، وقلد الجاحظ أدباء آخرون اقتفوا أثره وساروا على طريقته وكتبهم تعج بمقالاتهم القصصية الماتعة، وحقيقة أن هذا النوع من الأدب يأتي كفن جميل، يعبر فيه الأديب بما يجول في نفسه ويعتمل في ذاته.
وفي العصر الحديث أبدع الأديب الكبير علوي طه الصافي -يحفظه المولى جل في علاه- في نسج خيوط هذا الفن، والعزف على أوتار قيثارته لا سيما في كتابه (من بادئ الوقت - عائد من أمريكا) ثم أردف عنوان الكتاب بتحديد ماهيته وكنهه، فقال عنواناً مبتكراً أخاذاً جميلاً خلاباً وهو (مجموعة قصمقاله)، هي نصوص أدبية فيها إبداع وإلهام وحماسة وإحسان، ونصوص الكتاب خير شاهد على قولي هذا ولها عناوين جذابة منها على سبيل التمثيل لا الحصر: (هيّا فوفلي)، (من بادي الوقت)، (سوق الديرة)، (الشيك والنمر والأرنب)، (دندنة دندنة)، (الأجيرة)، (حتى يوم الطين)، وتشرق هذه العناوين المشوقة في كتاب من القطع المتوسط تربو ورقاته على مائة وسبعين ورقة، وغلافه جميل وسيم زينته تلك العبارة التي خطت بفخر واعتزاز جاء فيها: (تقديم الناقد المعروف الدكتور عبدالله بن محمد الغذامي) فازداد الكتاب جملاً على جمال، وعانقته اللذة والحلاوة والطلاوة.. وقدم الأستاذ الدكتور الغذامي للكتاب بمقدمة يانعة أقطف منها الثمرات الآتية، يقول -حفظه الله-: (المقالة القصصية قديمة في تاريخنا الأدبي منذ (الجاحظ) الذي تتجلى فيه روح الحكاية، مع روح السخرية، مع روح التفكر العقلي في تجاوز تام لا يقيم حداً فاصلاً بين هذا وذاك، وستجد عنده العقلي والوهمي معاً، كما تجد السردي مع المنطقي، ويعضد ذلك كله بقانون (الاستطراد) الذي اشتهرت به نصوص الجاحظ، وها هو (علوي الصافي) يعيد (النمط الجاحظي) ويكتب نصوصه المقالية مازحاً ما بين المنطقي والخيالي في تجاور تام حتى لينافس هذا وذاك بل يتغلب العقلي عنده على التخيلي ولا يمانع بأن يقتل بطلة الحكاية، وهو هنا يفعل فعلته متعمداً مواجهة القصة بالمنطق مع الانتصار للمنطقي كلما حصل تناقض بين الاثنين).. ويحيي أستاذنا وأديبنا وناقدنا الغذامي -حرسه الله- مبدع هذا العمل بقوله في كلام ينم عن خلق التقدير والاحترام والإجلال الذي يتسم به أستاذنا الغذامي؛ وعلّك أيها القارئ الكريم تصغي إليه برهافة سمع، ونباهة قلب، ليصب في أذنيك الرحيق التالي: (لا شك أن القارئ سيجد مثلي متعة في قراءة هذه النصوص، شرط أن يقبل بلعبة المؤلف في المزاوجة ما بين المنطقي والقصصي، مع تغليب المنطقي كلما اقتضى المقام ذلك، والمؤلف لم يخدع قارئه فقد تولى قتل الدُّجيرة وكشف عن فعلته بتسمية صريح هي (القصمقالة) كما نص على ذلك في عنونته للمجموعة، وهي تسمية أرى أنها تشملالكتاب كله، كما سيلاحظ قارئ هذه النصوص).
هذا ولا يزال الأديب الأريب علوي طه الصافي قامة عالية متطاولة في الثقافة الأدبية السعودية تنم عن قدرات مميزة، وإمكانات متميزة، لرجل لم يمتهن عملاً غير الثقافة في مسيرة حياته، وتسياره الشخصي حتى هيمنة الثقافة، فتفرغ للصحافة كتابة وتأليفاً ونشراً.
علوي طه الصافي أديب يعدل في عطائه جيلاً كاملاً نابضاً بالحياة والحرارة والحركة والبذل والكرم.. علوي طه الصافي كوكب جنوبي مضيء له امتداد وتطاول وعبقرية وتفرد ومثابرة وأدب فلله دره.
وقد قدم لكتابه هذا بمدخل فذ جميل جاء فيه: (إن هاجس التفكير في (جنس) قصمقالة) الذي أمزج فيه بين جنسي (القصة والمقالة) كان يقرع ذاكرتي بإلحاح، فكتبت من خلاله بعض الأعمال غير المرضية لي بالصورة التي تريحيني، لأنني لم أكن أقصد مجرد الجمع بين جنسين فحسب، بل كنت أتطلع إلى صياغته بأسلوب يختص به، وهذا ما كان يرهقني)؛ ثم يواصل حديثه العذب النمير ليقول لقارئ الكتاب الكريم: (الأشكال أو الأجناس الأدبية تبدأ بتجربة فردية فأما أن تشيع وتنتشر، فتتراكم التجارب الفردية لتتحول إلى (ظاهرة عامة) وأما أن تفشل وتموت في مهدها، وحسبي في النهاية أنني جربت وحاولت، وتبقى التجربة بين (الهجوم، أو التشجيع) لهذا السبب وربما لغيره، فإن جنس (قصمقالة) أعدها تجربة قابلة للفشل أو النجاح، وللحقيقة فإنني لا أطمع في أي منهما وأكرر حسبي أنني أقدمت على هذه التجربة متحملاً مسؤولية نتائجها بشجاعة أدبية).. والسؤال الذي يطرح نفسه على مؤلف الكتاب هو: ما هو موقف النقاد من هذا العمل الثقافي الجديد؟.
حدثنا أديبنا علوي طه الصافي عن ثلاثة آراء لثلاثة أعوام، وهم على نسق ترتيبه، أولهم: الناقد العربي الكبير الأستاذ أحمد كمال زكي الذي قال عن المجموعة أنها من الأعمال القصصية التي يطلقون عليه في الغرب مصطلح: (short short stories) وهو غير سائد في الأدب العربي المعاصر.. ويرى أنه الجنس الأدبي الذي عرف في التراث العربي باسم (الأقصوصة).
ثانيهم: القاص الروائي العراقي عبدالرحمن مجيد الربيعي وقال عن المجموعة: (قدم لنا علوي طه الصافي قصصاً تختلف عن قصص زملائه - أنها تنتهي إلى ما يمكن تسميته نقدياً (القصة القصيرة جداً).
ثالثهم: الناقد العربي الدكتور محمد صالح الشنطي الذي قال: ( «في مطلات على الداخل» لعلوي طه الصافي تحس بتفاعل عميق بين هاجس التجديد في رؤية الكاتب وبين أدواته الفنية، فالصافي يحس بعمق أن ثمة نزوعاً في الداخل يوشك أن يمزق شرنقة القديم، ولكنه يظل حبيس العالم الداخلي، وكأنه يستحثه بمهمازه الفني، يدفعه إلى التخلق والتشكل).
وأخيراً:
فقد أثار الأديب النابه علوي طه الصافي إثارة واهتمام وامتاع وتثقيف متلقى أدبه، في سرد حكائي مقالي لمجموعة مترابطة من الأحداث لها بداية ووسطية ونهاية تحكي أحاسيس شخصية أو تسرد مشكلات اجتماعية أو معرفية بذوق فني رفيع، وصراع درامي بديع، معرجاً -رعاه الله- على قصص ضارب بجذوره الشجية كقصة -الدجيرة- على سبيل المثال وهي مستقاة من التراث الشفاهي والموروث التقليدي.