عرفت الفقيد الماضي منذ أيام اليفاعة أي قبل ستين عاماً.. كانت تربطه بجدي علي بن عبدالرحمن بن حسن بن معمر _ رحم الله الجميع_ معرفة, حيث كانا يقيمان في العراق يوم كان العراق عراقاً لا عراكاً سقى الله تلك الأيام. كان بارزاً بين لداته وأقرانه لا تخطئه العين شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر أنيق المظهر حسن الملامح واسع الصِلات كثير العلاقات. وتقدمت بنا الحياة وتقلبت بنا الأيام وتسلمت رئاسة تحرير صحيفة الجزيرة في الستينات الميلادية قبل حرب 1967م, هنا اتصلت إسبابي بأسبابه حيث صار يلقاني في الأسبوع أكثر من مرة يمدني بمعلومات وأخبار ومقالات بلا أسماء وتعليقات بلا إمضاء. كان يفعل مثل هذا مع جريدة القصيم التي كانت تصدر بالرياض ويشرف عليها الشيخ صالح السليمان العمري رحمه الله وذلك أيام صحافة الأفراد قبل عهد المؤسسات الصحفية.
كانت تربطه بعبقري الصحافة العربية كامل مروة مؤسس جريدة الحياة معرفة قديمة. كان يقيم في بيروت فترات طويلة يوم كانت بيروت عاصمة المال والإعلام ومحط الطموحات والأحلام. دار أوروبا وجال في عواصمها وعرف دواخلها وقابل شخصيات كانت تمر بها أو تقيم فيها مما أكسبه الكثير من المعلومات. إنه يذكرني بيونس بحري مذيع القسم العربي في إذاعة برلين أثناء الحرب العالمية الثانية ومغامراته ومسامراته لكنه لم يدون ذكرياته مثل يونس ولو فعل لرأيت ثم رأيت عجيباً وشيئاً غريباً. لقد سمعت من الوجيه والوجه الاجتماعي المعروف الشيخ حمد الجميح أنه رافق والده المرحوم الشيخ عبدالعزيز الجميح في الخمسينات الميلادية من القرن الماضي.. حيث كان في رحلة علاجية ومرواً بإيطاليا تجولوا فيها وساحوا. فجأة خرج عليهم يعقوب واختلط بهم وأخذهم إلى أماكن لا يكاد يعلمها إلا القليل من الإيطاليين. لقد أدهشهم وأنساهم تعبهم وآنس وحشتهم وكذلك كل من صادفه أو لقيه خارج المملكة حيث تتجلى عبقرياته (بل أكاد أقول وكراماته), وقد لمست أنا بعضاً منها وشهدت على مشاهد يوم كنت أقبع في قرية نائية شمال لندن أسكن عند أسرة مكونة من رجل وزوجته قد مسهما الكبر عتياً. ذات يوم جاءني هاتف من لندن إنه يعقوب اتصل بالملحقية الثقافية, عرف هاتفي وعنواني فناداني من بعيد لنقضي عطلة العيد. وهكذا كان لقد رأيت من آياته ومعجزاته وكثرة صداقاته ما جعلني أصدق ما كنت أسمع عنه. كانت تربطه بالأستاذ أحمد عبدالغفور عطار يوم كان يصدر جريدة عكاظ ويرأس تحريرها صداقة ومعرفة كان يمرر عبر العطار بعض ما كان يريد نشره من أخبار وتعليقات أو وخزات يقصد بها أشخاص معينين. كان يجيد اللعب تحت الطاولة ويتقن أساليبه باحتراف ومهارة وبالمناسبة كان يعقوب والعطار من أدهى من جالست وأعمق من جايلت، يقتصدان في المديح والثناء ولا يقصران في النقد والإغواء. كان كل منهما صاحب حجة وإقناع لا سفسطة وإقذاع، عميق المعرفة بالناس واسع الحيلة لماح المخيلة لا يطلع على سره أحداً إلا من ارتضى من صديق وليس كل صديق.
يستدرجك بالأسئلة فإن اعتصمت بالصمت فسر صمتك وحلل ما يدور بداخلك. كان كل منهما أعني يعقوب والعطار حاضر الجواب سريع الرد يرهق المجادل وينشف ريق المماحك. كانا يلتقيان بالرياض إذ حضر العطار يتشاوران ويسهران ويسمران وتدور بينهما أحاديث كم كنت أتمنى لو حُفظت, ففيها ما يُستفاد ويستحق أن يُعاد. كان يعقوب يتخذ من الفنادق وجلساتها وصالاتها مكاناً وموعداً لاجتماعاته ومقابلاته بل وبعض حفلاته وندواته التي يحضرها الكثير والجم الغفير من أساتذة الجامعات وكتاب الصحف وزوار الرياض. كان آخرها ندوة فندق المنصور التي كانت تمتد إلى مطلع الفجر.
عمل بالحكومة مطلع شبابه في عهد الملك عبدالعزيز والملك سعود رحمهما الله, ثم امتهن التجارة واتخذ له مكتباً بعمارة العزيزية بشارع الوزير حيث الشقق الواسعة كان رقم مكتبه 304 بالدورالثالث. كان ذلك المكتب الواسع يطل على الشارع به شرفة عريضة مستطيلة تعرفت فيها على إثنين من أبرز الإعلاميين أول قدومهما من سوريا للمملكة للعمل بها, هما الأستاذ زهير الأيوبي رحمه الله والأستاذ ماجد شبل شفاه الله. كان يعقوب لديه مقدرة عجيبة على التعرف على الناس وتعريفهم على بعض ثم تفريقهم إذا شاء.
كان من ألد خصوم مرحلة عصفت بالأمة العربية وجرت عليها الكثير من النكسات ومن هنا جاءت علاقته بكامل مروة وتلك الطبقة من رجال الإعلام العارفين بمآلات الأمور وما خلف المستور. كان مرجعاً وأرشيفاً ومستودعاً لمن أراد أن يحيط بحياة وتقلبات بعض الشخصيات التي اختلفت الروايات حولها وشجر الخلاف بسببها, من أمثال المستشرق الإنجليزي المعروف جون عبدالله فلبي والشيخ عبدالله بن علي القصيمي لأنه عرفهما عن قرب وعاصرهما بالجنب في الداخل والخارج. ألم أقل لكم من قبل أنه يشبه يونس بحري الباقعة العراقي الذي عاش الحياة بالطول والعرض فكان له في كل عرس قرص وفي كل محفل رقص وفي كل يوم طقس.
حدثنا ذات ليلة شتوية ماطرة طويلة عن بداية التحولات الاجتماعية في حياة سكان العاصمة الرياض في أوليات الخمسينات الميلادية من القرن الماضي وخص أول أمين لمدينة الرياض الأمير فهد الفيصل الفرحان آل سعود بالذكر والملك سعود بالثناء والشكر رحم الله الجميع. ماذا أقول وماذا أدع وماذا أثبت وماذا أمحو وأنا في مقام الرثاء والتأبين لا مجال التأريخ والتدوين, لقد غاب مع يعقوب قرن من الزمان بعزائمه وهزائمه وانتصاراته وانكساراته.
هذه لمحات من حياة وذكريات لرجل اختلفت حوله الأقاويل من قايلٍ إلى ناقل وما كل ما يُعلم يقال ولا كل ما يقال يقال في كل الأحوال والله المستعان والمتعال.
ما زلت تدفع كل أمر فادح
حتى أتى الأمر الذي لا يدفع
ما زلت تفجع في الأحبة بعدهم
وذهاب نفسك لا أبا لك أفجع