قال الله عز وجل في محكم كتابه الكريم: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي).
أحاول أن أتأقلم على العيش من دونك وأعيش على الذكريات. أحاول جاهدًا أن أخرج بحروفٍ تناسب الرحيل المُر لحبيبة قلبي وعطُر أيامي. لكن للأسف، من شدة الفقد خانتني الحروف والكلمات أيضاً، تمنيتها تخفف عني لهيب الحزن، لكنها رحلت بصمتٍ كالليل الطويل. لجأت بعد الله عز وجل إلى من هم قريبين إلى قلبي فحاولوا تخفيف الألم، ولكن لا زلت مفجوعاً، حاولت أن أبحث عن مخرج يخفف عني شدة الألم فذهبت إلى مكة المكرمة وأخذت عمرة لأمي، ثم توجهت إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصليت في مسجده ومن داخل روضته الشريفة، حيث قال صلى الله عليه وسلم (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، ودعوت لأمي وأبي سائلاً الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل ما دعيت به.
نعم رحلت أمي العزيزة عن هذه الدنيا، ولكنها تركت أثراً جميلاً لمن يعرفها ولمن لا يعرفها؛ بسبب قلبها اللطيف، وأعمالها الخيرية، وحبها للناس جميعاً وحبها للفقير قبل الغني. وكذلك حبهم لها، حتى أني ارتاح بين وقت وآخر عندما أتذكر بأن عدد المصلين عليها كان عدداً مهولاً، وكذلك المعزين في المسجد والمقبرة والبيت. رحلت يا أمي وتركت في داخلي حزناً كبيراً، وفراغاً شاسعاً أحدثه الفراق. رحلت بصمت، بعد أن ذبل قلبك من هذه الحياة والمعاناة الطويلة مع المرض ومراجعة الأطباء.
بموتك استيقظت كل القلوب النائمة. وبرحيلك يا أمي شعرت بأن هذا الشتاء شديد البرودة بعد أن كنت مصدري الوحيد للدفء. وبرحيلك يا أمي أصبح قلبي فارغاً وموحشاً بفقدكِ.
سيفتقد مسجد الحي (خالد بن الوليد)، تلك المرأة التي كانت تحرص على صلاة التراويح، وتحرص على الحضور مبكراً ليس لأجل أن تحتل مكاناً في الصف الأول من المصلى، بل من أجل أن تُشرف على ترتيب وتوزيع الماء داخل مصلى النساء قبل حضورهن، سأفقد الخير الكثير، حيث كنت أتشرف بالذهاب بها إلى المسجد وهي على الكرسي المتحرك.
سامحيني يا أمي إذا قصرت في حقك يوماً، أو أهملت نصيحة منك يوماً. الموت حق ولكنني لم أكن أعلم أن موتك كان قريباً. أسمع دائماً كم يكون الحزن شديداً بفقدان غالٍ ولكن حزني اليوم لا يضاهيه حزن آخر، ولكننا لا نعرف قيمة الأشياء إلا حينما نفقدها وهذه طبيعة البشر.
أعلم أنك عانيت كثيراً من مرضك في السنوات الأخيرة، ولم أتوقع أن نهايتك كانت قريبة ولم ألاحظ لبلادتي بإشارات منك بأنك أحسست بالموت قريباً منك.
سأفتقد عبارات كنت اسمعها عند ذهابي صباح كل يوم للعمل حيث كنت تقولين لي (استودعتك الله الذي لا تضيع ودائعه)، فهذه الدعوة كانت تعطيني الاطمئنان والراحة. رحمكِ الله أيتها الحبيبة، وأسكنك فسيح جناته. ويبقى عزاؤنا أنه مهما كان الحزن كبيراً والفقد موحشاً في قلوبنا، إلا أن هناك بصيص أمل يتجلى خلف الغيوم.
ماتت واحدة من خيرة النساء، ماتت التي سيفقدها كثيرون، ماتت التي سيفقدها المحتاج واليتيم، ماتت الحبيبة التي ذاب القلب عليها حزناً. ماتت بسمة العائلة ورحمتها، ماتت الصدر الحنون، ومصدر الأمان والحنان والإيثار، توقف قلبها الرقيق فجأة عن النبض، وجف فيض الحنان ونبعه، جف بعد أن أغدق سيله على كل من حوله، وكل من احتاج ليرتوي.
كانت وعلى الرغم من مرضها تشعر بنا، تشعر بفرحنا، تشعر بألمنا، تعيش واقعنا بحلوه ومره، وجودها يشعرنا بالأمان والقوة.
وأنت أيها القبر فأنت تحوي امرأة غير كل النساء، وجسداً طالما سهر الليل في طاعة الله، وقلباً مفعماً بحب الخير، رحمك الله يا أمي وأسكنك الجنة، وجمعنا بك ووالدنا - رحمه الله - في الفردوس الأعلى في جنة عرضها السماوات والأرض، آمين.
ولولا تيقننا بأن الله أكبر من كل أحزاننا، وألطف من كل القلوب المحيطة من حولنا، وأنه إذا كبُر الخالق في قلوبنا صغُر كل شيء. رحلت يا أمي وكان رحيلك أشبه بالصدمة المفاجئة ... تساوى العسل بالمر والنور بالظلام وما عدت أرى شيئاً.
- إبراهيم بن عبد الله بن ناصر الربيع