المنصفون من الناس هم أصحاب العقول الراجحة الذين يدركون ما حولهم ويضعون الأشياء في مواضعها اللائقة بها، ويقيمون غيرهم بحسب علمهم وثقافتهم ومركزهم في الحياة دون اعتبار لجنس أو لون أو تمذهب أو تحزب،لإيمانهم بأن الرجال معادن بأفعالها وحسن سمعتها، لا بجاه ولا حسب ولا نسب ولا مال، وهم الذين يفكرون في عواقب الأمور ويعدون ذلك في حساباتهم، ولا يهمهم من أنت من الذوات والجنس والطبقية وإنما من أنت من الفاعلين والمنتجين والمحسوبين على مجتمعك هكذا يقيم الرجال، فالعبرة بالكيف ولو لم تكن ذا حسب ونسب، فبلال رضي الله عنه حبشي وصهيب رومي وسلمان فارسي رضي الله عنهم أجمعين وهم من خيرة الصحابة الذين شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخير وزادهم ذلك عزا ومنعة، ولم ينفع النسب أبا جهل ولم يزده نسبه وجاهه من الله إلا بعدا.
ما أحوج الناس اليوم إلى المنصفين الذين عرفوا الحق وعملوا به ولا تأخذهم في الله لومة لائم، منهجهم منهج الوسطية والاعتدال وصالح الأقوال والأفعال متمثلين قول الشاعر:
لا تقل أصلي وفصلي أبدا
إنما أصل الفتى ما قد حصل
وقول الآخر:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا
يغنيك محموده عن النسب
وعلى المنصف أن يبدأ بنفسه أولاً، لأن من لا يعرف قيمة نفسه لا يمكن أن يعرف قيمة غيره، ولا بد للمنصف من ضوابط ينطلق منها للحكم حتى لا تكون مقاييسه عشوائية.
ومن أهم هذه الضوابط : العدل وعدم الإجحاف، فالإنصاف قرين العدل لا ينفك عنه، والعدل بالنسبة للمنصف هو لب معرفته وإطلاق الحكم على غيره.
ومنها: وفرة العلم والإحاطة بحال الآخر، لأن فاقد الشيء لا يعطيه ن ومن لم يعلم بحال الطرف الآخر لا يمكن له إنصافه، بل ربما يسيء إليه ويضره أكثر مما ينفعه، ومن لم يعلم فعليه أن يسأل ولا يطلق الحكم جزافا.
ومنها: إرادة الخير للغير، فإن الإنسان متى خلصت نيته وقع حكمه موقعه، لأن الإنصاف في الحكم يحفظ الحق لصاحبه وقد يترتب عليه مصالح أخرى تنفعه في مسيرة حياته.
أما أنتم أيها المصنفون: فقد سلكتم مسلكاً وعرأ لا طائل تحته وعدمه خير من وجوده، بل ناقضتم ما بني عليه الإسلام من العدل والمساواة والأخوة الإيمانية، وفرقتم بين المسلمين بمسميات ما أنزل الله بها من سلطان، حتى أدى هذا التصنيف إلى خلق العداوة بين أفراد المجتمع وجعلتم الناس أحزابا وطوائف متناحرة دب فيهم داء الجدل والخصومة حتى أصبح كل حزب بما لديهم فرحون ينتصر لرأيه، ومعلوم أنه لا دين إلا بجماعة على وفق منهج الإسلام الذي رسمه للناس كافة، وما تلك المصطلحات والمسميات التي أطلقتموها على فئام من الناس إلا نذير شؤم وعنوان تفرق وتحزب لا تمت للإسلام بصلة، ولم تكن تلك المسميات معروفة في العصور الأولى وإنما أحدثتها المدنية الحديثة والبعد الطائفي الذي يشهده العالم اليوم بسبب تعدد النوعية واتساع رقعة العالم الذي تحكمه عدد من النزعات القبلية والأهواء الفكرية، حين خف ميزان التمسك بأحكام الإسلام وأصبحت التوجهات تطلق على حسب الأمزجة والأهواء الشخصية، ناسين أو متناسين
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (13) سورة الحجرات
و (كلكم لآدم وآدم من تراب)
و(المسلمون سواسية كأسنان المشط)
و (لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى)
كيف غابت هذه النصوص عن أولئك المصنفون، وتحملوا وزر التصنيف بلا حجة ولا برهان وإنما ما تمليه عليهم ضمائرهم المشوبة بالبهتان، وقد قيل: المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
متى يعود المجتمع صفا واحدا يسوده التصافي والتآخي، لا لبرالي ولا علماني ولا إخواني ولا جامي، وإنما أخوة في الله إيمانية تجمعهم كلمة الحق وتسودهم المحبة لئلا يتنازعوا فيفشلوا وتذهب ريحهم، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- المعهد العالي للقضاء