في نهاية الربع الأول من 2014، ظهرت ملامح التغيير لاتجاه أسواق النفط في العالم، فقد شهدت الأسواق أنباء متعددة قابلها تأرجح في الأسعار، حيث هبطت أسعار WTI على مؤشر نايمكس إلى 97 دولارًا للبرميل في بداية الأسبوع، وكان كسر لحاجز الـ 100 دولار نزولاً. وحسب تقارير «إدارة معلومات الطاقة» الأمريكية EIA، ارتفع إنتاج النفط في الولايات المتحدة (أكبر مستهلك للنفط في العالم) إلى أعلى مستوى منذ 26 عامًا خلال الربع الأول من العام 2014، وقابله هبوط في الواردات النفطية، وتم زيادة الإنتاج من النفط الأمريكي بـ 33 ألف برميل يوميا ليصل إلى 8.125 مليون برميل، ولم يشهد الإنتاج الأمريكي للنفط هذا المستوى منذ عام 1988م. وهذه الزيادة في الإنتاج تمثل 15 في المئة من مستوى العام الماضي، ويعزى ذلك إلى القيمة المضافة من حفر الآبار «الأفقية» و»التكسير الهيدروليكي» لتدفق المزيد من النفط الصخري، وهناك تفاؤلات في المزيد من الإنتاج النفطي الأمريكي يقابله خفض في الواردات من النفط ومشتقاته. فيما هبطت كميات واردات النفط الخام إلى الولايات المتحدة حيث وصلت إلى 7.192 مليون برميل في اليوم، وهو المستوى الأقل منذ بداية 1997م (أي منذ 18 عامًا).
وارتفعت توقعات إنتاج النفط الأمريكي إلى 9.16 مليون برميل يوميا حسب توقعات «إدارة معلومات الطاقة» الأمريكية EIA، وقد كان أعلى إنتاج للنفط وصلت إليه الولايات المتحدة 9.6 مليون برميل يوميا في عام 1970 أي قبل 44 عامًا.
وعلى صعيد آخر، ما كان هناك مخاوف من نقص الإمدادات النفطية بسبب الأزمة الأوكرانية وضم روسيا لشبة جزيرة القرم، وهذه المخاوف ساهمت في ارتفاعات حذرة في أسعار النفط الأمريكية، وأيضًا ارتفعت أسعار «برنت» بحر الشمال إلى 107.51 للبرميل عند الإغلاق.
وتأتي هذه المخاوف من نقص الإمدادات النفطية من منطقة روسيا حيث كان من المتوقع فرض عقوبات أمريكية وأوروبية على روسيا، ومتوقع أيضًا ردة فعل روسية، ويذكر مبدئيًا أن العقوبات ستشمل الخدمات المالية والطاقة والمعادن والدفاع والقطاع الهندسي.
وبسبب تداعيات الأزمة الأوكرانية واحتمال تغيير إستراتيجيات أوروبا النفطية واعتمادها على استيراد الديزل أكثر من استيراد النفط الخام من روسيا وتكريره في أوروبا، وأيضًا بسب اعتماد بعض دول أوروبا على استيراد الديزل من روسيا، هناك توقعات قوية بزيادة واردات الديزل الأوروبية من أمريكا، حيث إن وفرة الديزل في معامل التكرير الأمريكية يصدر يوميًا إلى أوروبا، ويقابلها استيرادات للبنزين (وقود السيارات) في الولايات المتحدة من أوروبا.
ويأتي هذا التبادل للبنزين والديزل بين أمريكا وأوروبا (كما موضح بالصورة) بسبب تكرير برميل النفط الذي يتوفر منه كميات بنزين وكميات ديزل (اجباريا إلى حد ما في تكرير برميل النفط)، ولا يمكن التحكم في جميع مشتقات النفط من التكرير.
وبما أن غالبية سيارات أوروبا تعمل على وقود الديزل فهم يحتاجون إلى ديزل أكثر من طاقتهم الإنتاجية، وفي المقابل يكون عادة لديهم فائض من البنزين ويتم تصديره إلى أمريكا. وفي المقابل، معامل التكرير الأمريكية تستهلك غالبية كميات البنزين المكررة في معاملها حيث إن غالبية سيارات أمريكا تعمل على البنزين، وتستورد بنزينًا من الفائض الأوروبي، وتصدر فائض الديزل إلى أوروبا، وهناك أيضًا كميات قليلة مخالفة للقاعدة الأساسية لها مبررات اقتصادية خاصة.
وفي تقارير أخرى، وبسبب توقعات أمريكا لارتفاع إنتاجها للنفط بسبب زيادة الإنتاج من النفط الصخري، وبالتالي زيادة كميات الديزل أكثر من حاجة استهلاكه بأمريكا، تتوقع مراكز الدراسات أن أمريكا ستصبح أكبر مصدر للديزل في العالم.
فيما تبقت أزمة أوكرانيا عاملاً مهمًا في زيادة المخاوف من نقص الإمدادات النفطية خصوصًا مع النوايا الأمريكية الأوروبية من فرض العقوبات على روسيا بما فيها عقوبات على الصادرات النفطية ومشتقاتها حسب تصريح للرئيس الأمريكي باراك أوباما، حيث لمح الرئيس أوباما إلى أن الولايات المتحدة تعتزم على رفع إنتاجها من الغاز الصخري لتعزيز موقف الدول الأوروبية من عدم الاعتماد على المصادر الروسية وتحويل الوجهة إلى دول أخرى منها أمريكا ومزيد من الاعتماد على المصادر الأوروبية.
وعلى نطاق آخر في القارة الأوروبية، أعلنت شركة «شل» النفطية عن حالة «ظروف قاهرة» وخارجة عن السيطرة الأسبوع الماضي لإعفائها من الالتزامات في العقود لهذا الأسبوع وما يليه من مدى التأثير لقيام جماعات وعصابات نيجيرية بالاستيلاء على أحد أنابيب النفط في نيجيريا، كما معتاد فتح الأنابيب والاستيلاء على النفط الذي بداخلها وبيعه في السوق السوداء.
ومن جهة أخرى، مزيد من نقص الإمدادات النفطية الليبية، حيث تم إغلاق خطوط أنابيب نفطية، وتوقف أيضًا حقول نفطية، أما حقل الشرارة الذي يبلغ إنتاجه 340 ألف برميل يوميًا فلا يزال مغلقًا منذ أسابيع. وتكاد الاحتجاجات توصل إلى جميع الحقول الليبية وتوقفها عن الإنتاج، وهذا زاد من الحدة والشح في الإمدادات النفطية الليبية التي يصل إنتاجها حاليًا إلى قرابة 155 ألف برميل يوميًا.
الجدير بالذكر أن إنتاج النفط الليبي وصل إلى 10 في المئة من إنتاجها قبل بدء الاحتجاجات التي اجتاحت الموانئ والمنشآت النفطية، الذي كانت 1.4 مليون برميل يوميًا، وبالتأكيد هذا يزيد من المخاوف في نقص الإمدادات النفطية الأوروبية.
مع بداية منتصف العام لـ 2014، بدأت عوامل هبوط أسعار النفط في الظهور بازدياد، وبدأت بالتالي الأسعار تهبط إلى مستوى دون 100 دولار، ثم توقفت عند سعر السبعينيات بعد أن هبطت تدريجيا إلى التسعينيات والثمانينيات والسبعينيات. وفي نهاية نوفمبر2014، قررت دول «أوبك» عدم خفض إنتاجها، وهذا ما رفع مستوى المعروض من النفط وأكملت الأسعار هبوطها إلى ما دون 70 دولارًا ومن ثم إلى ما دون 60 دولارًا، ومع بداية 2015 هبطت الأسعار إلى ما دون 50 دولارًا.
عام 2015 حذر ومخاوف
في 5 يناير 2015 هبط سعر النفط إلى ما دون 50 دولارًا للبرميل، وهناك توقعات كثيرة لهبوطه إلى ما دون ذلك، حيث إن أكثر المحللين توقعوا انخفاض سعر النقط إلى بداية الأربعينيات. وأجمع الكثير أن أسعار النفط ربما تتراجع بعد ذلك للصعود ومتوقع أن تستقر قريبًا من 70 دولارًا. ومع بداية السنة الجديدة 2015، ارتفع مستوى إنتاج النفط الأمريكي إلى 9.14 مليون برميل يوميًا، وهو أرفع مستوى منذ 32 عامًا (يناير 1983).
وتتوقع التقارير والدراسات المطروحة أن السعر خلال السنة سيتعافي قليلاً إلى 70 دولارًا كما سبق ذكره ولكن الكثير اتفق أن السعر لا يعود لمستوى 100 دولار خلال العام.
هناك تحديات تواجه جميع منتجي النفط (دول الأوبك، ودول خارج أوبك، وشركات النفط الصخري) مع انخفاض أسعار النفط، فقد تتأثر وتتعثر بعضها، وتعافي لاحقًا متى ما ارتفع سعر النفط.
حاليًا، تكلفة إنتاج النفط مقياس للصمود والبقاء، وبالنسبة للشركات الأمريكية (النفط الصخري) فتكلفة الإنتاج تقريبًا 55 دولارًا للبرميل كمعدل للمكامن، ومعظم هذا السعر تم صرفه مقدمًا عند عمليات الاكتشاف وعمليات الحفر الأولي، واستفادوا من سعر النفط فوق 100 دولار لسنوات. ولكن الميزة لتلك الشركات أنها ليس لديها مصرفات أخرى كدول أوبك التي تعتمد على النفط بشكل كبير، فهذه الدول تحمل النفط الإنفاق على الدولة (رواتب، مشروعات، وتشغيل) للوزارات كالتعليم والصحة والعسكرية والبقية.
العبء الأكبر على دول «أوبك» أنها تتحمل أعباء مصاريف دولها، ولكن النفط الصخري شركات وغالبيتها صغيرة ومصاريفها ليست ثابتة، فتستطيع التوقف والعودة عن الإنتاج متى كانت الأسعار مجدية. تنقسم مصروفات إنتاج النفط الصخري إلى ثلاثة أقسام رئيسة (1) تكاليف الاكتشاف والأعمال السيزمية، (2) تكاليف عملية الحفر المبدئية وتسليح الحفرة وتمديد الأنابيب داخل الآبار، وهذان القسمان (1) و(2) يمثلان أكثر من 50 في المئة من قيمة الإنتاج في غالب الأحيان، ويجب اكتمالهما قبل استخراج البرميل الأول، ومن بعد ذلك يأتي القسم (3) عملية الإنتاج وتشمل التكسير الهيدورليكي واستخراج النفط وتجهيزه فوق سطح الأرض ونقله.
وعلى صعيد آخر، هناك دول تنتج حاليًا أقل من طاقتها الإنتاجية ومتوقع أن تعود في أي وقت، فليبيا تنتج أقل من نصف مليون برميل وتستطيع أن ترفع إنتاجها إلى مليوني برميل يوميًا كما كانت قبل بداية الثورة ويعزى انخفاض الإنتاج إلى الأوضاع الأمنية، وكذلك في سوريا والعراق، وأيضًا إيران تسعى لرفع إنتاجها وصادراتها بمليون برميل يوميًا التي توقفت عنه بسبب الحظر الاقتصادي المفروض عليها دوليًا.
وهناك أيضًا مصادر أخرى للنفط مؤثرة مثل النفط الرملي، فـ56 في المئة من إنتاج كندا من النفط الرملي ويصل إلى 2.25 مليون برميل يوميًا، مع العلم أن كندا خامس أكبر منتج للنفط في العالم بإنتاج يومي يصل إلى أكثر من 5 ملايين برميل.
أجمع كثير من الاقتصاديين أن انخفاض سعر النفط يخدم الاقتصاد الأمريكي (المستهلك الأكبر للنفط، والمتوسع الجديد للنفط، وقائد النفط الصخري)، وهذا مما قد يعزز من دعم الحكومة الأمريكية للنفط الصخري الذي سيبدأ تصدير بعض إنتاجه لخارج الولايات المتحدة وكذلك الغاز الصخري، والوجهة إلى كثير من الدول وبالذات الصين واليابان وأوروبا.
وبالنظر إلى جميع المعطيات، يلاحظ غياب الدراسات التفصيلية والتخصصية في دول أوبك للرؤية المستقبلية للنفط، وهذا مصدر خطر لأسواق التداول في تلك الدول ومنها دول الخليج واقتصادياتها المحلية.
وعلى المدى البعيد، فالطلب على النفط سيرتفع مستقبلاً لسببين رئيسيين، الأول الزيادة في عدد السكان والثاني الزيادة في عدد السيارات للسكان الحاليين خصوصًا في الصين والهند والولايات المتحدة حيث إن عدد السيارات في الصين 51 مليون سيارة عام 2010م (أي 37 سيارة لكل 1000 نسمة)، وتشير الدراسات إلى أن عدد السيارات سيرتفع 5 أضعاف وسيصل إلى 255 مليون سيارة خلال 15 عامًا (عام 2030م)، وطبعًا هذه نسبة عالية مقارنة بتزايد عدد السكان. وكذلك الحال بالنسبة للهند، فعدد السيارات في الهند 9 ملايين سيارة عام 2010م (أي 7 سيارات لكل 1000 نسمة)، ومتوقع ارتفاعها إلى 55 مليون سيارة عام 2030م، أي 5 أضعاف أيضًا.
أما الزيادة الكبيرة الأخرى فهي في الولايات المتحدة فمتوقع ارتفاع عدد السيارات من 171 مليون سيارة إلى 253 مليون سيارة. الزيادة فقط في هذه الدول الثلاث أكثر من 550 مليون سيارة، تقريبًا 72 في المئة من عدد السيارات في العالم عام 2010م وهي كفيلة بزيادة الطلب على الوقود سواء كان نفطًا أو بدائل.
ولكن بالنظر للرؤية المستقبلية للنفط حسب الدراسات الدولية المعتمدة، نجد أن الطلب على البنزين والديزل لن يرتفع كثيرًا خلال الـ25 سنة المقبلة، بل إنه سيرتفع فقط 25 في المئة مع أن عدد السيارات سيرتفع من 760 مليون سيارة إلى 1700 مليون سيارة (أي أكثر من الضعف); ويعود ذلك إلى 3 أسباب رئيسة: بدائل النفط، وتحسن أداء محركات السيارات، وثالثًا: التركيز على السيارات الصغيرة ذات الكفاءة العالية أو بالأحرى السيارات التي لا تستهلك وقودًا بكميات كبيرة لصغر حجمها.
ويعمل حاليًا في الولايات المتحدة أكثر من 16 مليون سيارة على وقود E85 وهي مزيج (85 في المئة من الإيثانول وهو من زيوت الذرة، وبقية الـ15 في المئة من البنزين)، وهذا كان أحد الخيارات لتقليل الاعتماد على النفط كوقود للسيارات ولكنه واجه مشكلة التحدي مع الغذاء والماء، ولذلك بقي كما ولم يتم التركيز على تطويره، أيضًا لسبب آخر وهو بوادر جدوى النفط والغاز الصخري. وحاليًا، لا تزال 16 مليون سيارة في أمريكا تعمل على وقود E85 أو ما يسمى بالوقود الحيوي، طبعًا تطويره سيكون خيارًا مستقبليًا، وأيضًا هناك M85 وهو شبيهه ولكن يعمل بالميثانول من الغاز الطبيعي ومنه الغاز الصخري. أما التحديات الأخرى، فهي البدائل للنفط، فهناك السيارات التي تعمل على (الكهرباء) فمتوقع أن تعمل 100 مليون سيارة في العالم على الكهرباء عام 2040م، البديل الآخر وهو الأكثر تأثيرًا هو (الهايبرد) أو ثنائي الوقود (كهرباء كوقود أساسي، وبنزين كوقود احتياطي) الذي تتوقع الدراسات وجود أكثر من 500 مليون سيارة تعمل على الهايبرد عام 2040م. وهنا يعلق البعض أن هذا سيضغط على الطلب على استهلاك الكهرباء ووقودها، ولكن مع الاكتشافات الكبيرة للغاز الصخري (الذي هو أكثر من النفط الصخري بأضعاف) والطاقة المتجددة وتطوير الطاقة الشمسية والذرية، لن يكون هناك عوائق لهذه الأنواع من الوقود التي ستشارك النفط كمصدر أساسي لوقود السيارات. وهناك تحد لا يقل أهمية عن سيارات الكهرباء والهايبرد وهو تحسين أداء محركات السيارات حيث تستهلك وقودًا أقل لتقطع مسافات أكثر، فمثلاً أداء محركات السيارات تحسن كثيرًا ووصل إلى 33 في المئة أفضل من أدائه قبل 20 عامًا لبعض السيارات، فهناك سيارات كانت تستهلك 15 لتر بنزين لكل 100 كم وأصبحت الآن تحتاج فقط لـ 10 لترات لتقطع نفس المسافة.
ويعزى كثير من التحسن لتخفيف وزن السيارة، وغالبية السيارات المستقبلية ستكون من السيارات الصغيرة ذات الكفاءة العالية في استهلاك الوقود إضافة إلى استبدال الحديد بالألمونيوم وأيضًا تخفيف قوة المحرك، فسياراتنا مؤهلة للسير بسرعة أكثر من 200 كم بالساعة والمفترض إلا نستخدمها بسرعة أعلى من 120 كم بالساعة. مع زيادة عدد السيارات هناك مجهودات وأنظمة لتقليل التأثر البيئي من عوادم تلك السيارات، وجميعها يصب في تحسين أداء المحركات.
أخيرًا، تركز خطط صناعات السيارات على تصنيع السيارات ذات الأحجام الصغيرة والمقاعد الأقل، فسيكون التركيز على حساب الزوائد مع أن الحاجة لها قليلة، فالكثير يستخدم سيارات صنعت لنقل 5 أشخاص (سيارات السيدان العادية)، وتستخدم لشخص واحد لأكثر من 80 في المئة من المشاوير، فثقافة الدول الأخرى (خصوصا) الصين والهند ستختلف كثيرًا وتبحث عن الأرخص، وكذلك الدول المتقدمة.
م. برجس حمود البرجس