تعود معرفتي لأبي سليمان، د. عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، أستاذ اللغة العربية بجامعة أم القرى إلى أكثر من ثلاثين عاماً، حيث كان الجوار في عمارة يسكنها بعض أساتذة جامعة أم القرى منهم والدي رحمه الله، وذلك عام 1400هـ بحي الششة بمكة المكرمة، واستمرت هذه الجيرة المباركة بانتقالنا سوياً لعمارة في حي العزيزية عام 1403هـ، ومنها لمجمع فلل بحي العوالي عام 1407هـ حتى افترقنا بانتقال والدي لمدينة الرياض عام 1428هـ لظروفه الصحية، وكذا انتقل أبو سليمان لعنيزة وابتعاده عن الناس بسبب تدهور حالته الصحية جراء اشتداد مرض السكر عليه والذي أصابه عام 1408هـ، ولم تمكّنه آخر خمس سنوات من حياته من التواصل حتى عن طريق الهاتف مروراً برحلته العلاجية إلى ألمانيا ليبهج محبيه بظهوره الاستثنائي عبر قناتي المجد ودليل.
المعروف عن أبي سليمان أنه يتسيّد أي مجلس يحضره أياً كان مكانه، فيه فمعلوماته القيمة وثقافته الواسعة وحفظه للحوادث والسير والقصائد فصيحها وعاميها مع أسلوب يعتمد على الاستفهام والطرافة والسخرية يجعلانه محط الأنظار والأسماع.
لما كان أبو سليمان شغوفاً بالمخطوطات مشغولاً بها كان من الصعب عليه أن يجازف بوقته لكل مستفتٍ أو زائر من طلبة العلم فقصر يوم السبت بعد العشاء من كل أسبوع موعداً يلتقي فيه بمحبيه وطلبة العلم فكانت السبتية وبدأها عام 1408هـ في منزله بحي العوالي في دكة في فناء البيت شتاء وفي مجلس أرضي صيفاً ويدور في هذه الأمسية حديث أدبي شيق، وكالعادة في مثل هذه اللقاءات لا تخلو من القهوة والشاي يُباشر بها على الضيوف غالبا ابناه سليمان ويوسف أو أصغر الحاضرين كنت أحدهم مرات حتى يأتي موعد العشاء فينتقل الضيوف إلى غرفة الطعام متحلقين حول 3 سفر والأكل المقدم غالباً هو الدجاج مع الرز الأبيض - السليق - وسلطة مطحونة وفاكهة وبعد العشاء لا يلبث الحاضرون أن يستأذنوا.
ولما كان الوقت ثميناً عند أبي سليمان كان طلبة العلم يستغلون مشوار عودته من المسجد - مسجد عرب بحي العوالي - إلى البيت فيسير معه السائل وقد يكون أكثر من واحد وكنت غالباً أتطفل بالسير خلفه والاستمتاع بما قد أفهمه من بعض الأجوبة، وإذا ما وصل لباب بيته قال بأسلوب لطيف: أهلكم.. أهلكم.
ولأبي سليمان رحلات علمية اقتفى فيها الكثير الكثير من المخطوطات سمعت الكثير منه، وأجد أن أطرفها ما كان في التسعينيات الهجرية عبر الباص في العراق وسوريا وتركيا حتى ألبانيا التي لم تكن بينها وبين المملكة تمثيل دبلوماسي وبقاؤه عالقاً على الحدود بحثاً له عن مكان ليقيم فيه وإمهاله يومين لمغادرة البلاد مع الباص العائد لتركيا.. يقول: «لقيت المخطوط اللي أبي ولا عرفت أصوره فسجلته على مسجل وسببت إزعاجاً في المكتبة ولا عرفوا يتفاهمون معي - اختلاف اللغة - فجابولي فلسطيني موظف في المكتبة وقلت وينك جابك الله غاد (ن) تسني - كأني- معاق أتفاهم معهم بالإشارة، واشوى صور لي المخطوط»..أهـ
ومن لطيف عشقه للمخطوطات أنه كان يتحدث مع والدي في منزله وكان للتو عائداً من القاهرة فسأله والدي: أجل ما سافرت؟
أبو سليمان: رحت، وصلت المطار الساعة 8 بتوقيت القاهرة وأخذت تاكسي وعلى دار الكتب، وأدور رفيتزي - رفيقي كناية عن موظف يعرفه - ما لقيته، وألقى هاك الوليد الحرك وأخذه على جنب، قلت أسمع أنا فلان وطيارتي بالليل هذي ورقة بها خمس مخطوطات وهذي خمسة آلاف ريال ألواح المخطوطات عددها كذا وتصويرها بكذا وتغليفها بكذا والمشوار للفندق بكذا أحسبها والباقي لك، ورحت الفندق, المغرب وهو جاي.
والدي: وبس تعطيه خمسة آلاف، وأنت ما تعرفه.
أبو سليمان: أبد الدنيا بخير يالله من فضلك.
والدي: ومتى الوصول؟
أبو سليمان: تالي الليل، قلت وش يقعدني، طلعت المطار انتظار، وتسهلت وصلت 12 وساعة من جدة وغفيت شوي ومير يجي إبليس، الحين انت شلت الكرتون ما تدري وش فيه؟!، ومير أفكه وتفقدت مخطوطاتي واطمأنت نفسي والا العصيفيرات - تصغير عصفور - والسفر طالع ما انتبهت للفجر.
والدي مازحاً: إني أحببت حب الخير..
ومن طريف ما وقع منه بسبب تعلقه بالمخطوطات أنه حضر مرة للصلاة لابساً الثوب على الجلابية، معللاً أنه كان يتصفح مخطوطاً فسمع الإقامة ولبس الثوب على عجل.
ومما يتداوله طلبة العلم عن أبي سليمان حفظه لأماكن المخطوطات وأزيد على هذا بالخزانة والرف.
ومن القرارات التي تحسب لمعالي د. راشد بن راجح مدير جامعة أم القرى سابقاً اختيار د. عبد الرحمن العثيمين عميداً لمركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، فكان المركز في وقته مكينة ألمانية من حيث غزارة الإنتاج، حتى كان من عوامل علو اسم الجامعة بفضل وصول منشورات المركز لأغلب المكتبات سواء الأكاديمية أو الأدبية.
وموقف حصل بينه وبين معالي د. راشد بن راجح أنه اتصل عليه وطلب منه الحضور له في البيت وكان البيت في حي العوالي ليس بعيداً عن منزل أبي سليمان فلما دخل فناء المنزل طلب الموظف منه الانتظار بحجة أن معالي د. راشد مشغول، فغضب أبو سليمان وعاد لمنزله، وما هي إلا دقائق حتى طرق معالي د. راشد بن راجح منزل أبي سليمان معتذراً عن تصرف موظفه، وأنه كان يرغب في الجلوس معه والمسامرة بعيداً عن الجو الأكاديمي.
فيا لها من عزة نفس عند أبي سليمان، ويا لها من أخلاق سامية عند معالي د. راشد بن راجح.
وفي الجامعة وعلى مقاعد الدراسة تحمل ذاكرتي المتواضعة مشهداً لأبي سليمان وهو يدرس للطلاب، محاضر غير متكلف، وغير متقيد بالبرستيج الجامعي فتراه أحياناً يحاضر وهو يدور بين الطلاب وجلوسه متربعاً على طاولة المحاضر.
ومرة تحدثت مع والدي - رحمه الله - وكنت وقتها في أول سنة في الماجستير عن كتاب بعنوان معجم الكتاب والمؤلفين في المملكة العربية السعودية، ولم يرد في الكتاب اسم أبو سليمان ولما خرجنا لصلاة العصر قابلنا أبو سليمان فأخبره والدي، فسألني عن مكان الكتاب فأخبرته أنه في مكتبة جامعة أم القرى، ولما كان المغرب كان متقدماً علينا في العودة للبيت ثم وقف ينتظرنا, وبعد السلام، أخرج أبو سليمان خطاباً من القائمين على الكتاب سالف الذكر يطلبون منه تزويدهم بترجمة له.. ثم قال: «ما خاطبوني إلا أنهم يعرفوني، كان كتبوا اللي يعرفونه عني، التراجم فن يختلف فيها فلان عن علان، يحط الواحد رجل على رجل ويرسل رسالة ما تكلفه نص ريال زودني بسيرتك، بألف كتاب، اشتغل عندك!.. فرد والدي: قناعات».
وبرغم أن التخصص العلمي لأبي سليمان اللغة العربية إلا أنه كان متعصباً للمذهب الحنبلي أو بلفظ أخف ميّالاً له وربما هذا الذي قاده إلى تحقيق الكثير من تراجم أتباع المذهب، وهنا يحضرني قصة طريفة لعلها في عام 1408هـ عندما كنت عائداً من صلاة المغرب مع والدي، وكان أبو سليمان متقدماً علينا وبصحبته أ.د. محمود الطناحي - رحمه الله -، وعند باب منزله الذي يأتي قبل منزلنا والفاصل بينهما سور توقف أبو سليمان داعياً والدي لضيافته مع د. الطناحي ودخلت برفقة والدي وشاهدت سيارة بيضاء نوع بيجو في فناء المنزل عرفت أنها تعود للدكتور الطناحي تركها عند أبي سليمان فترة سفره إلى مصر في إجازة نهاية العام الدراسي، ولما دخلنا للمجلس ودار حديث السؤال عن الحال والأحوال بين والدي والدكتور الطناحي أحضر أبو سليمان القهوة فأخذتها منه وأثناء شروعه في الجلوس سأل الدكتور الطناحي عن عدد من الأعلام، وش تقول في فلان ابن فلان.. والطناحي يثنيه عليه ثناء العارف بعلمه ومؤلفاته وهكذا.. ولما انتهى من أعلامه قال: تراهم حنابلة.. فيضحك د. الطناحي وسط دهشة من والدي فقال أبو سليمان مازحاً: أما أنك تعترف بمذهب وعلم وفضل الحنابلة وإلا مال السيارة طلعه من البيت.. فضحكوا وقال د. الطناحي: إلا ومن أكره.. الحنابلة أجدع ناس.. فقال والدي: أفا يا دكتور محمود, أنتم - يقصد الشافعية - أقرب مذهب لنا أنتم عزوتنا.
أما تحقيقه لكتاب السحب الوابلة فأذكر أنه عرض على والدي مجموعة من الأوراق يتدارس معه أعلام لم يذكرهم صاحب الكتاب ولا الشيخ البسام في علماء نجد، وما لفت انتباهي أنه استنتج من خلال قصة عن أحد الأشخاص أنه لحقته ديون فاضطر لبيع كتاب عنده بعنوان الإنصاف للمرداوي.. فعلق أبو سليمان: شخص يملك هالكتاب في هاك الزمن معناه طالب علم.
ومن الكلمات التي تُعتبر نبراساً للباحثين الأكاديميين ما نقله أبو سليمان عن العلامة خليل عساكر لما استشاره في ترشيح جامعة لإكمال دراسة الدكتوراه فيها أنه قال: الرسالة المتميزة هي: موضوع وطالب ومشرف وليست جامعة.
ولما كان موضوعي في مرحلة الدكتوراه تحقيق ودراسة مخطوط بعنوان الفصول في القضاء والدعاوى للاستروشني كان لزاماً أن تكون لي زيارة خاصة لأبي سليمان، فسألني عن عدد مخطوطات الكتاب فقلت له 77 مخطوطاً فقال: إذا فيها نسخة المؤلف أو نسخة قرأت عليه فالباقي قش - أي ليس له قيمة -.
ولم يكن مقتنعاً بالخطة الموحدة لتحقيق المخطوطات الموضوعة من قسم الدراسات العليا الشرعية والتي تعتمد على النص المختار وكان يسميها نسخة إضافية.
فأشار علي والدي أن أكتب في خطة البحث: توصلت لعدد من النسخ للمخطوط وسأختار منها نسخة تكون هي النسخة الأم وأقابل عليها ما توفر من المخطوطات لدي.. وفي مجلس القسم قيل بأن د. أبو الأجفان، تونسي الجنسية - رحمه الله - اعترض على خطة القسم الموحدة، وتساءل في إحدى المناسبات هل تجيز كلية اللغة العربية مثل هذا العبث في المخطوطات فرد والدي: كلية اللغة العربية عندهم أبو سليمان - العثيمين -، ممشيهم على الصراط المستقيم.
ومن طريف مناقشاته للرسائل الجامعية قوله لأحد الطلاب: أنت مثل اللي شاري بضاعة مسروقة، ناقل نص وذاكر المصدر، ومصدرك مسروق، دوّن عندك المصدر الأصل...
وأبو سليمان مغرم بالحياة الريفية لذا لم يخل فناء منزله من بعض الزروع المنتجة كالورقيات والقرع والبطيخ ناهيك عن النخل وثمره وكذا الحيوانات المنزلية كالدجاج والماعز وكم سقى ضيوفه من حليبها.
وآخر المقال: هذا ما حفظته ذاكرة الجار الصغير عن العلَم الكبير، رحم الله والدي وأبا سليمان ومن سلف من ذلك الجيل المربي والموجه والمعلم لي ولجيلي.