الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
العلم رحم بين أهله، بمشاهد تواصلهم تزدان دواوين السير، وتشرق قوائم التراجم، ومن ثم تتجلى ألوان الوفاء، وتسطر صفحات الإخاء، وتتداعى أقلام المحبين لإبراز هذه العلاقة، وليعرب التعبير عما تكنه الصدور من المودة. وما زال صريف الأقلام يتردد صداه على صفحات التاريخ؛ ليعلن الشهادة الصادقة لكل عالم عامل متقن ذي صنعة في ميدانه وصناعة في تخصصه، وهذا الإتقان المركب من الإخلاص في العمل والمكنة من أدوات التخصص، والانقطاع والتفرغ.
كما أن اقتران بذل العالم للعلم بالتواضع شموخ يهون له العسير، ويلين له الصعب، ومن كانت هذه صفاته فقد تشرب محبة العلم، وسلك مسالك أهله، لا يتذرع به لمنصب، ولا يتطلع فيه إلى جاه، ولا يتمندل به لتزييف، ينشر الحق وينفع الخلق.
تلك السطور الآنفة معانٍ عكستها مشاعر مُحبّ بعد تأمل سيرة ومسير المحقق الكبير والمدقق الأستاذ النحرير الحجة الثبت أخي وزميلي وجاري وصديقي الحبيب إلى قلبي فضيلة الشيخ الدكتور أبي سليمان عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، الذي وافته - رحمه الله - المنية فجر يوم الأحد 29/ 2/ 1436هـ.
والدكتور عبد الرحمن العثيمين - رحمه الله - تربطني به جملة من الروابط - بعد أخوّة الإسلام - منها رحم العلم، وميدان التعليم، ومجاورة البيت الحرام، ومجاورة السكن سنوات ذوات عدد، والصداقة والخُلة؛ لذا فالحديث عنه ليس حديثاً عابراً، بل هو حديث السابر والمسامر، والصديق والمعايش.
الدكتور عبد الرحمن العثيمين - رحمه الله - تميز في شخصيته العلمية والسلوكية بالوضوح، لم أعرفه متصنعاً، فالمجاملات الباهتة والابتسامات الصفراء ليس لها في تعامله سبيل. دوحة العلم وصدق العلاقة هي التي تجمعه بمن حوله من الجلساء والمحبين والعلماء والطلاب، فهو يستظل بها، ويقطف من ثمارها، يصدر لطلاب العلم الناهمين المعارف من بحر علمه المتلاطم، وميدان خبرته الفسيح، ويرشد كل متعلم إلى مشربه، حتى علم كل وارد منهم مشربه، في علم المخطوطات ومحافلها، ودروب التحقيق ومسابلها، وأعلام التراجم وطبقاتها، وأحداث التاريخ ومتعرجاتها، وعلم الأنساب ومعالمه.
الدكتور عبد الرحمن العثيمين - رحمه الله - تعلق باللغة العربية مبنى ومعنى، ونحواً وصرفاً، ينهل من أدبها سامق المعاني وجزيل المباني، يلمس ذلك مَنْ حاوره ورصد مكتوبه. فقد شمل اهتمامه الأدبي بالشعر العربي قديمه وحديثه، والشعراء متقدمهم ومتأخرهم، والمشاهير والخامليين في عاطفة مرهفة وتذوق للقراءة أخّاذ، تدور رحاه حول دواوين الشعر ومباسط معانيها من الشروح وكواشف المعاني: كحماسة أبي تمام وشروحها، فهو رفيق له في مصدوره قبل مسطوره، فليس من ملكته أن يند عن ذهنه شيء من قصائد الحماسة، يعرف مكانها في الكتاب، ويحفظ للحماسة ما يقارب المئة من شروحها.
أما التراث فهو الباعث لمكنوزه والراد للعبث عن مكنونه، خبير محرر بالعبارة والإشارة، يُهتدى به إلى عويص المظان. قال الطناحي لأحد طلابه، الذي عانى من البحث عن مخطوط: إذا قال لك العثيمين إنه لا يعرف المخطوط فلا تبحث عنه. وقال المحقق محمود شاكر: عقل العثيمين هو الكمبيوتر، وقد كان الناس حديثي العهد بهذه الآلة العجيبة.
من خصائص الدكتور عبد الرحمن - رحمه الله - اللطافة والطرافة؛ فهو من أهلها، ويستعملها في محلها، يجمل ذلك البساطة في المظهر، والعفوية في الحديث، وعدم التكلف في الاستقبال.
له مواقف متعددة، تشهد بحضوره الطاغي، وتداول فوائده وفرائده على موائد الكبار من العلماء المحققين، من أمثال: محمود شاكر، وحمد الجاسر الذي كان يُدنيه ليجلس بجواره، قائلاً: إن مَن يحضر عندي يستفيد مني، أما العثيمين فإنني أستفيد منه. ومحمود الطناحي، ومحمد عضيمة، فأصبح مرجعاً لهما، ووصفه عالم العربية الدكتور محمد عضيمة بما معناه أنه عراب المخطوطات وخبيرها وضابط استخباراتها.
وقد عني عناية خاصة بكتب التراجم والطبقات لعلماء وفقهاء الحنابلة؛ إذ عني بتحقيق جملة منها:
طبقات الحنابلة للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى الفراء البغدادي (ت:526هـ). وابتدأ هذه الطبقات بترجمة الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - حتى وفيات الطبقة الخامسة عام500هـ.
والذيل على طبقات الحنابلة للحافظ عبدالرحمن بن أحمد بن رجب (ت:795هـ). وابتدأ تذيله على طبقات الحنابلة من الطبقة الخامسة عام500هـ حتى وفيات عام 750هـ.
والمقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد لإبراهيم بن محمد بن عبدالله بن مفلح (ت:884هـ). وابتدأ بترجمة الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - حتى وفيات عام 850هـ، إلا أنه لم يرتب كتابه على الطبقات؛ وإنما جعلها مرتبة على حروف المعجم باختصار.
والجوهر المنضد في طبقات متأخري أصحاب أحمد ليوسف بن أحمد بن الحسن بن عبدالهادي، المعروف بابن المبرد (ت:909هـ). وهو ذيلٌ على طبقات ابن رجب.
والسحب الوابلة على ضرائح الحنابلة لمحمد بن عبدالله بن حميد (ت:1295هـ). وذيَّل به على طبقات ابن رجب إلى أن وافته المنية عام 1295هـ، وطبع بتحقيق الدكتور: عبدالرحمن بن سليمان العثيمين - رحمه الله - مع الدكتور بكر بن عبدالله أبوزيد - رحمه الله -.
ومن طالعه ذلك كله أدرك علو كعبه في التحقيق، فهو ليس محققاً فقط، بل مسدداً للنواقص ومستدعياً للشوارد والدقائق. ومن خاصة علمه في هذا المجال قدرته على معرفة خطوط العلماء والنساخ أسماءً ورسماً.
وقفات
- أبو سليمان: كريم مضياف حيثما حل؛ فبيته مفتوح لجموع الوافدين من العلماء والطلاب من غير تكلف، فسيماه التبسط والتواضع. وإنك لتعجب من هذه الشخصية المضياف الكريمة مع انقطاع للعلم محبة واحتساباً. وحين أقول احتساباً أي أنه لم يشتغل بما يشتغل به قرناؤه في العلم الأكاديمي من التطلع للترقيات.
- من مقولاته: (أي كتاب يدخل مكتبتي بطريقة غير مشروعة لن يكون فيه بركة).
- جلس مرة في مكتبته بعد العشاء ليستعرض بعض مخطوطات جلبها معه فلم يشعر إلا وضوء الشمس قد دخل عليه من النافذة، فسُئل عن ذلك فقال: لقد صورت مخطوطات فلم أستطع النوم حتى أتأكد من تصوير كل ما طلبت.
- لا يحنث من يقول: إنه ليس هناك خزانة مخطوطات أو دار كتب لم يقلب أبو سليمان محتوياتها أو يستكشف كنوزها أو يستعرض محتوياتها.
- ومن طريف ما ذكره أخونا فضيلة الدكتور/ محمد الفريح في مقاله الماتع عن أبي سليمان - رحمه الله - ما ذكره من اقتراح الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله - على الشيخ عبد الرحمن أن يقدم لكتاب «السحب الوابلة، بتحقيقه» سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - فقال أبو سليمان: «الشيخ ابن باز على رأسي ومحل والدي، ولكن لو فعلتُ ذلك لمزقتُ الكتاب! إذا لم أكن راضياً عن عملي فلا حاجة لإغراء الباحثين بتقديم الشيخ، وإذا كنتُ راضياً عن عملي فلا داعي لأطلب الثناء عليه». عجيب هذه الروح، وأعجب منها هذه الثقة التي في محلها، وأحسب أنه موقف جدير بالعناية للغاية.
إن الحديث عن أبي سليمان - رحمه الله - يطول، فهو رحالة علمية ومحقق مخالط، له حفاوة ومكانة في تخصصه، وهو من نوادر المحققين الكبار، الذي يستوجب على المؤسسات العلمية العناية بتركته العلمية اهتماماً ونشراً، كما يجب على طلابه ومن له تواصل علمي بيان منهجه في الدراسة والتحقيق للتراث الإسلامي.
ومن حق أبي سليمان أن يُحفظ حقه، ويُقدر له علمه وفضله.
وإنني أرجو مخلصاً من جامعتي وجامعته جامعة أم القرى الشامخة أن تعرف لابنها فضله، وتحفظ له مقامه؛ فتقيم مؤتمراً أو ندوة كبرى، تحمل اسمه وتراثه، يتحدث فيها ويكتب المختصون المحبون والخبراء، فهو من خير من أنجبت الجامعة علماً وفضلاً ومكانة، مع اختيار قاعة من قاعات العلم في الجامعة لتزدان بحمل اسمه - رحمه الله - مع طباعة تراثه.
ورحم الله أبا سليمان، وأسكنه فسيح الجنان، وجعله في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقاً، وأصلح عقبه وذريته، إنه سميع مجيب.
- كتبه: د. صالح بن عبدالله بن حميد