و.. كذا النعم، بل إن الترح مغمور بالفرح، وهذا.. من لطائف المولى تعالى.
ودّع صديقنا العزيز الأخ (كابتن) طيار: سعد بن سعود الزامل أحد كنوز عصرنا (والدته) في هذه الأيام التي أحسبها عليه وذويه.. حالكة، لما للأم من منزلة، فيما كنّا مع بعض الصحبة بين جنبه في هذا الظرف الثقيل بلا أدنى شك.
بخاصة على قلبه، وبالأخص وأنا أنظر لأدمعه ولا غرابة البتة، فالوالدين مما لا يحتاج المرء أن يجدّل عن صداهما داخله، أو يجلّي ولو عن بعض أبعاد ما لهما..
بل.. إن القول في هذا هو من الفضول.. كما وما يُمسى توضيحه من اللجاجة!، بالله هل تجد من سيفسر (الماء) إلا بالماءِ..!
طبعاً.. سوى من تلبسه شيء من البلاهة، وآطىء بمنسمٍ على هذا الكلام الذي لا يحتاج إلى تأكيدٍ!
فإجمالاً إن الحديث عن الوالدين من المسترسلات التي لا تنتهي، أو يبلغ لها ساحلٍ.
فبربك من يمكنه أن يوجز لك عن حاجته اليومية للطعام أو الشراب، هذا، فضلاً عن فوائد الماء للجسد، وهذا كتقريبٍ..، فحسب!
إذاً كيف بربك يستطيع المرء أن يحدّثك عن (قدر) وأثر ومكانة أعظم إنسان في حياتك كـ(الوالدين) وبالذات الأم، سوى من أراد أن يخوض في فضول الحديث، أو تفسير المفسّر.
على كلٍّ أقول لحبيبنا سعد/ أنت لا شك قد ثقل عليك توجّد هذا الظرف، بخاصة أن الأم ثم الأب (هما أولى.. بالصحبة) كما في الحديث، فلا شك أن ما تتجرّع في حياله.. ليس بكثير، ولا تلك الدموع التي سححتها عيناك على أمّك بكثير، لكني وأنا (أُعزيْك) انظر إلى طرفٍ قد يكون خفياً.
.. بل أجزم أنه قد يكون بهذه الظروف مساوياً ماء العينين، ولا غرو البتة بمثل هذا الحال.
فيلزمك -عندئذ- أن تلهج بالحمد لربك أنـّه لم يحل بينك وبينها من حائلٍ.. كـ(غربة) طلباً للرزق، أو من أمور الدنيا التي تجتاح بعض من ضروفهم لزاماً عليهم مضياً ورائها وهي تعتصرهم، مما يجعل الفراق شبه حتمي أو ظروف ما تجعل من الحال.. ما يصعب عليك.. أو هو ليس تحت يديك تبديله، حتى لا تستطيع لها طلبا.
كذلك أحمد الله وأشكره أن قررت بها عينا، و.. (تشبّعت)، بل كما تقدم/ أن قد أنست بها قدراً ووالفت قدر ما يمكن لك.. منها، وهكذا.
فهذه النعم مما تقدم بسطها، لأنك إلا و.. تجد أقواماً حُرموا منها، وغالباً من غير اختيارهم، وإلا فلا أحسب عاقلاً رزيناً.. يعرف ما للوالدين من حق ثم يستسهل في هذا الأمر، فضلاً عن يستنكف عن تقديم ما لهما من برّ.. بخاصة وأن البرّ (دين مستعجل) أي على طول تجد صداه، و(تسديدْ)- من أبنائك، وصدق من قرّب: (.. البرّ كتاب أنت تسطره، وأبناؤك يقرءونه عليك) وهذه الجملة دلالتها بالغة من المدارك، فلا تحتاج إلى شرح.
لكني هنا سوف انظر.. فـ(أميل طرفكم) إلى وجهة مخفية.. في هذا/
سبحان الله بعضهم يغفل النعم حتى في الموت، وهذا ما يجلي -من أحد وجوه- إعجاز الآية قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا [التوبة: 51] دقق.. أنه لم يقل (علينا)، وإلا فالمصاب ألمه من (ظاهر) تأزّم مما علينا عبئه.. لا لنا!
و.. لأشرح كتجلية لعنوان المادة:
فمثلاً لو توفي أحد الوالدين، فإنه يُبكى عليه بكاءً حاراً ولا شك..
طيب، لكن.. ألا تحمد الله أنه يوم تُوفي وأنت بين يديه، أقصد (قد) هنئت، وسعدت به رأئك.. ترضّى عنك، كما.. والحمد لله أنك لم تكن يومها مسافراً أو غائباً، أو.. بينك وبينه من جدليات الدنيا، أو من (أنفاثها) الموجعة الوقع، و..!!
كما.. وتحمد (المولى) وتشكره أنك لحقت آخر عمره، فـ بررت به، (أو) قدمت على الأقل ما تستطيع، خاصة إذا كان -فقيدك- قضى وطراً من مرضه بين المستشفيات، فكان كاهل ذاك (.. أو معظمه) من مشاوير مواعيد.. أتعاب هي على ظهرك، فتلكم مكاسب (خفية).. قد تتوارى وراء حجب ثقل الخطب لكن -بعدها- عليكم استحضارها.. فالحمد لله قد بُلّغت بتلكم.. درجة من البرّ ما تجعلك وأنت تودّعه دموعك ظاهرها الترح من ألم الفراق، فيما قلبك غمره.. من الفرح لمنن هي -بإذن الله- درجة من البرّ.
كما والحمد لله أنك سعدت يا (سعد) به.. أن كانت لحظات الوداع وأنت بين عينيه، تشبّعت منه، بالذات وهو أنها إلا و.. ويدعوا لك الخ.
أسدي بهذا لما تتجرع من أثقال وأنت ساجي الطرف إليه، لا نملك له من حمل آلامه سوى حمله إلى المشافي طلباً للشفاء ثم بربك من بلغ من العمر مبلغه.. أليس إلى المنية صائر؟، بلى وأزيدك.. هل ترغب أن تراه والأمراض تفتك به، وبلغت منه مبلغها، ثم ألا ترجو له عندها أن يرتاح -.. لا ليريح-.
وإلا فلا تذهب بعيداً، أسأل أقواماً مات والد أحدهم.. وهو متغرّب، أو كان بعيداً عنه، أو ضوى زمناً لم يره، أو -حتى- حيل بينهما من أتعاب الدنيا بـ(غربة)، أو أسرٍ.. الخ أو وهذه أثقلها: بينهما من أمور الدنيا في الخلافات البسيطة التي ربما يقع عليها غرور.. ما، مما يكبّرها الشيطان فتنأى النفس بالجسد لا بالقلب عنهما!
بالذات وقد تستحضر عزة النفس (بغير مكانها) فكل لك أن..، سوى والديك، وقد قيل.. لا كبير.. أمام الوالد، أو المعلم، أو ولي الأمر.
واحمد ربك واشكره أنك (حال تواجدك).. قد قدمت ما تستطيع.. وإلى يوم تشيّعه إلى مثواه الأخير، فـ دفنته بيدك.. حضرت غسله.. دعوت له.. صليت عليه.. الخ، فإن هذه من ربك عليك جلائل لا تخفى إلا على من عشيت عيناه.
أجل، لكم أقول بهذا تذكيراً!
لأن كثيرين لا يستحضرها في لحظات الوداع، ما يجعله ينزف بكاءً، ولا شك أن هذا البكاء (قد) يكون من غير اختيار المرء، مما دل عليه الحديث {إلا أن الصبر عند المصيبة الأولى}، لكن على أن يستحضر هنا.. تلكم، على الأقل ليخفف عن نفسه.. يعزيها بذلك، ويواسيها.
.. من أنها منن، وفضائل وعطايا الله تعالى.. ما بلغك عند الوالد أو الوالدة من البر بالذات هذه الفترة (الأخيرة) أو العصيبة.. من عمره وإلا.. فإن خلاف هذا، يلحقه مذمة حديث: رغم أنف امرئ أدرك أحد والديه ولم يدخلاه الجنة ، ومعلوم مرام لفظة أدرك، أنها تعني بالغالب سن معينة من الكِبَر، أو الهرم..
أي كأنهما وهما بلا شك باب (كبير) إلى الجنة.. أن في إدراكهما ما كان له سبباً أن يدخل جنة ربك بـ(برهما)، وصدق الله العظيم حينما قرن حقه ما بحقهما، في قول المولى تعالى أن اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان: 14] وفي آية أخرى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء: 23].
.. إلا.. فلتحمد الله أنك بلغت لهما هذا الإحسان، بل حتى (وإن) لم تقنع داخلك أنك قدمت وفعلت ما يوازي!،.. ولا نصيف ما قدماه لك، لكنّ عذرك أمام مولاك أن أبديت ما هو على الأقل بوسعك.. مما تستطيع.
إلا.. فـ/ سامحني (زميلي) سعد أن بسطت (كل) هذا، لأبشرك بجوائز ما نلت.
وأختم..
بعدُ ما تقدم.. أن هذا الكلام كله.. ولو (زدنا) عما برّحنا ولا نصيف ما يقنع.. (قناعة) لما أن مقام الوالدين إفضاءً من المسترسلات التي لا.. ولن تبلغ ساحل ما يفي اغترار إثرائك.
بل.. وإلى درجة ما (باحه) عنه عباس العقاد شعراً:
وبكيت كالطفل الصغير.. أنا الذي.
ما لآن يصعب الحوادث مقودي..
حقيقة.. ما أن ترى حال بعض أقارب الميت، وبالذات إن كان الراحل أحد الوالدين.. إلا والله (يعتصرك) عطفاً إلى تعابيره.. رحمة به، شفقة من هول المصاب الذي حلّ به.
درجة.. أنك تحس أنه بالفعل أمسى (لحظتها) في عوالم اليتم، بخاصة لحظات.. ما يمرّ أمامك شريط طمره التراب على الغالي، وهذا.. ولا شك مما نتأثـّر به بالجملة!
وإلا.. فقد سبقنا إلى تأطير ما نعلم.. أننا من تراب وإلى تراب.. وكأن لا خالد (سوانا)، نحو نظم ابن هاني الأندلسي:
إنّا (وفي آمال أنفسنا) طول
وفي أعمارنا قصرُ..
لنرى بأعيننا مصارعنا
لو كانت الألباب تعتبرُ
.. خرست لعمر الله ألسننا
لما تكلّم فوقها القدرُ
- عبدالمحسن بن علي المطلق