على مرّ السنوات الخمسين الماضية، اكتسبت الممارسات الإداريّة طابعاً علميّاً وكمّياً أكثر من أيّ وقت مضى. وما من شكّ أبداً بأنّ البيانات والتحليلات لديها أدوار ومنافع لا يمكن نكرانها. ولكنّها تنطوي أيضاً على جانب مظلم بالغ الأهمّية وعندما لا يراه المديرون، يقضون على الابتكار عن غير قصد.
ويفيد المنطق الضمني لعقيدة الإدارة العمليّة بأنّه عليك أن تثبت - باللجوء إلى التحليل ومسبقاً - أنّ أحد القرارات صائب، قبل أن تتّخذه. وتجدر الإشارة إلى أنّ قلّة من المديرين يلجأون بأنفسهم إلى هذا التفكير إلا أنّ التدريب الذي يحصلون عليه يحثّهم على اللجوء إلى التحليل العلميّ، فتكون هذه العمليّة منتجة بالنسبة إلى معظم قراراتهم اليوميّة.
بيد أنّ المشكلة تظهر عندما يكون الابتكار الصادق مطلوباً، لأنه ما من بيانات تحيطنا علماً مسبقاً بالتفاعل الممكن لفكرة جديدة فعلاً مع العالم. وبالتالي، ما من طريقة تثبت مسبقاً إن كانت هذه الفكرة ستنجح. يثير هذا الواقع مشكلة حقيقيّة للمديرين الذين يؤمنون بضرورة اتخاذ قرار فقط على ضوء دليل تحليليّ يشير إلى أنّ القرار المذكور صائب. وعندما يأتيهم مبتكر بفكرة، يقولون له، «أثبتها»، لتكون العبارة الإداريّة الأكثر فتكاً بالابتكار.
وشاءت تصاريف القدر أن يعتقد المديرون الذين يطلبون أدلّة أنّهم يتوخّون الدقّة ليس إلاّ، ويكونون غافلين عن الواقع الذي يفيد بأنّهم يرسون معياراً يستحيل الالتزام به. وفيما بعد، سيشتكون بسبب عجز مؤسساتهم عن استحداث «ابتكارات مثيرة». وفي تلك الأثناء، يقرّ المبتكرون بفشلهم، لأنّهم يعرفون أنّ السبيل الوحيد لإثبات فكرة مبتكرة مسبقاً يقضي بجعلها غير مبتكرة.
وبهدف تغيير هذه الديناميكيّة، من شأن المديرين الذين يحاولون بصدق الاختراع أن يجرّبوا نماذج نمطيّة عن أفكار مبدعة على نطاق ضيّق، ومن دون اللجوء إلى الكثير من الاستثمارات المسبقة. وستسمح التجربة المتكرّرة بمنح الحلّ صيغة جديدة أكثر إثارة من أيّ وقت مضى - ويتمّ استنباط بيانات جديدة في سياق ذلك. بهذه الطريقة، من شأن المدير العصري أن يعتمد على التحليل والابتكار في آن، ما يسمح بتوجيه الابتكار بدلاً من القضاء عليه عن غير قصد.
بقلم: روجر مارتن
(روجر مارتن يترأس مجال الإنتاجية والتنافسية، وهو المدير الأكاديمي لـ»معهد مارتن للازدهار» في «كلية روتمان لإدارة الأعمال» في»جامعة تورنتو» الكندية، وقد شارك في تأليف كتابيْ «اللعب في سبيل الفوز: كيف تعمل الاستراتيجية فعلياً» و»العدّة اللازمة لاستراتيجيّة اللعب بهدف الفوز»)