كان ابن الجوزي ينهى عن الاستماع إلى القصاصين, وهم أولئك الذين يحدثون الناس من باب العظة والعبرة, أي الوعاظ في زمننا هذا, وكان يرى في القصص التي يرددها أولئك القصاصون فيها من الغث والسمين الشيء الكثير, ولأنهم يزيدون وينقصون في القصص من عندياتهم, فيخلطون الصحيح بالخطأ, ويأتون بالعجائب!!
إن تقانة التواصل الاجتماعي جعلت المرء مستهدفًا من معدي تلك المقاطع, ومن ناشريها, فهم يعملون ليل نهار بغية الأجر والثواب, لكن ما يحزّ في النفس أنهم غير مؤهلين لمثل تلك المقاطع التي صنفوها من أنها وعظ وإرشاد, إذ سيطر عليها الجهل, وانتثر فيها كثير من الأخطاء, ثم عرض الرأي من غير سؤال واستشارة أهل العلم, فكان أن كثرت المقارفات, وتنوعت السلبيات.
إننا اليوم نطالع أولئك الواعظين في شاشات التلفاز أكثر من غيرهم, وهم يتحدثون بالقيم المثلى, ولست أدري هل يتبادر إلى أذهانهم من أن تلك القيم لا يمكن تحقيقها, وأنهم لو تحدثوا بالقريب المعقول لكان أجدى!
إن ما يدور في تلك التقانة لا يعدو أن يكون حربًا, فالرجال- مثلاً- يريدون التعدد, فتأتي النساء وترد على الرجال, والوعاظ اليوم تبع للرجال تارة, وللنساء تارة أخرى, ولا أحد يدري لمن الغلبة!!
يذم بعض الوعاظ الإسراف في الطعام مثلاً, وينادون بالمعقول من المأكول, بينما أكثرهم لا يكاد يسمع بسباق مزاين الإبل في أم رقيبة؛ إلا وتراه ينطلق إليها كما السهم مدعوًّا إلى تلك الولائم الضخمة, فيستجيب أغلبهم زرافات ووحدانًا, فيأكلون, ويملؤون البطون من غير أن ينبسوا ببنت شفة, كما مناسبات الزيجات الخاصة بهم.
على أنك لتجد من ينادي بشناعة وجود التلفاز في البيوت, بينما في بيته أكثر من تلفاز, فكأن ما ينادي به حلال له, حرام على غيره, لذلك نلحظ شدة نهي ابن الجوزي عن الاستماع إلى القصاصين, إذْ إنهم غير مؤهلين لما ينادون به, وإنهم كما حال الشعراء, إذْ يقولون ما لايفعلون!!
إن حال بعض الواعظين اليوم كما حال من أعطاه الله قوة في الحفظ, فهو يحفظ ما يقرأه, ثم لا يلبث كثيرًا حتى يوظف ذلك الحفظ في تدعيم رأيه الذي ينادي به, وعادة يكون مما لم يصدر به نص من القرآن أو السنة, فتراه يموج ويلت ويعجن بما هو بصدده من غير أن ينكر عليه أحد.
إن ما يدعو إلى العجب قدرة كثير من الواعظين اليوم على الربط المتقن بين قصة حدثت في العهد القديم, فيأتي بها كأنها حاصلة قبل شهر, حيث يمزج بما في تلك القصة بما يحصل اليوم, يأتي بها بما فيها من حيثيات, وبما فيها وقائع يرى أنها تخدم رأيه الوعظي, بينما الحق أنه بعيد كل البعد عن الحقيقة الاجتماعية.
كان أحد الواعظين زمن أحمد بن حنبل, ويحيى بن معين, يتحدث إلى الناس, فكان أن قال: عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين...إلخ. وجاء بحديث نبوي مكذوب. فاستدعياه, وأخبراه أنهما لم يرويا هذا الحديث, فكان جواب هذا الواعظ ساخرًا: وهل لا يوجد في الدنيا غيركما اسمه ابن حنبل وابن معين؟ ثم قام وهو يسخر منهما!!
إن كثيرًا من الواعظين لا يتوانى في أن يأتي بقصة مكذوبة, أو برأي مثالي هو أول من يعلم بصعوبة تحقيقه, ولكنه يصر على ذلك ويستمر ليقال: الواعظ فلان, أو الشيخ فلان.
إن كثرة الكلام قد تكون عيبًا, وهناك من يكون طبعهم كثرة الكلام, ويرسله إرسالاً بلا انقطاع, فتجده يستثمره في تأليف كتب, أو تجده داخلاً في زمرة الواعظين, ولا يجد بأسًا في أن يأتي بالحكمة وبالمثل, وبالقصص على تأييد رأيه, بل قد يتأول آية القرآن, ومفردة الحديث النبوي.
لقد ضجر الناس من تلك المثاليات التي يصعب تحقيقها, كمن ينبري لنصح ذئب عن أكل الخراف, بينما الذئب يقول: عجل في نصحك, فإن هناك قطيعًا من الأغنام أخشى أن يفوتني!!
إن القصاصين يستلذون تخدير مستمعيهم, والمستمعون يميلون إليهم, ويطربون في قليل أو كثير لما يسمعون, ولكنهم ما إن يخرجوا عن مجلس الواعظ, أو ينتهي برنامجه التلفازي إلا ويعودون إلى سالف عهدهم, إذ ذاك؛ فإن الكلام المثالي لا يغني شيئًا, وإنما التمني في التمثل هو الذي يحدوهم, ولكن التمني شيء, والواقع شيء آخر.