«ضاق وزير المأمون بكثرة حاجات الناس، فقال له رجل حكيم: اترك مكانك هذا فلا يأتيك أحد فترتاح، فقال أما هذه فلا، وظل يجلس للناس دون شكوى».
بدءاً من حق أي إِنسان أن يفرح عندما ينال ثقة أو يفوز بمنصب أو يحصل على مال، لكن ماذا بعد ذلك.
كلما عظم المنصب أو زاد العطاء زادت المسؤولية والأعباء، لكن الرائعين هم الذين يؤدون عملهم بأمانة ويقومون بتبعات ما أكرمهم الله به بكل إخلاص لينجزوا ويعطوا ليبقى لهم الذكر الجميل، وبخاصة المنصب المهم كمنصب وزير فهو من أعظم المناصب التي لها علاقة بمصالح الناس، وحسبه أنه يبدأ بقسم عظيم أمام الله ثم أمام ولي الأمر، ثم أمام إخوته المواطنين.
أشرت ذات مقال عندما شرف عدد من أبناء الوطن باستلام حقائب وزارية جديدة ومنهم من لا يزال يحملها ومنهم من سلمها لمن خلفه.. مذكراً إياهم بالمتوجب عليهم لكي ينجحوا ويعطوا بإذن الله.
دعوني أيها الوزراء أهنئكم أولاً بثقة ولي الأمر بكم بتحميلكم هذه الحقائب الثقيلة.. أسأل الله أن يعينكم على أداء الأمانة نحوها.
ثم أقول لكم..
أيها الوزراء الجدد.. تذكروا هذه الأمور وأنتم تباشرون عملكم وتقتعدون كرسي المسؤولية:
(أولها: قد تضيق صدوركم بالعمل وكثرته وإحراجاته، لكن احرصوا على أن تشرحوا صدوركم للعمل، ولا تنزعجوا من كثرة الأعباء والأوراق، فهذه مسؤولية وافقتم عليها.. وما أجمل أن تصبروا على متطلباتها، وتذكروا وأنتم في غمرة العمل وزحمته، أنه سوف يأتي عليكم يوم تتمنون هذه الأعمال وهذه الأوراق بل وأكثر منها.
وثانيها: أمام كثرة المراجعين وذوي الحاجات لا تشكوا أو تضجروا بل أوسعوا لهم قلباً، وافتحوا لهم باباً، وازرعوا في وجوهكم البشاشة، وقابلوهم بالكلمة الطيبة والابتسامة المشرقة قدر المستطاع، وتذكروا أنه لن يأتيكم مراجع إلا وهو ذو حاجة: وإن لصاحب الحاجة مقالاً كما قال رسولنا عليه السلام. ولتحمدوا الله دائماً أن الناس هم الذين يحتاجون إليكم، ولستم أنتم الذين تحتاجون إليهم. وتذكروا قول الإمام الشافعي منذ القدم واجعلوه نبراساً أمامكم:
واشكر فضائل صنع الرحمن إِذْ جعلت
إليك لا لك عند الناس حاجات
وثالثها: سوف تواجهون وأنتم تتقلّدون مسؤولية الوزارة شحاً في الوقت، وقصراً في الزمن، ولكن لا تأسوا على ذلك أو تنزعجوا، فالعمل أمانة وسعادة بالإنجاز وسوف يجيئكم وقت قد تشكون فيه من طول الوقت لا قصره وامتداده لا شحه.
فلتجعلوا من هذه الوزارة بِراً تحصدون من ورائه رضا الله ثم الوطن لا وزراً تحصدون من ورائه الندم.
رابعها: استشرفوا ألا تجعلوا النظام قيداً يكبلكم عن أداء رسالتكم في تنمية هذا الوطن وخدمة أبنائه، فالنظام وضع لتسيير الأمور وليس لتعسيرها.. كما قال إداري عريق أبلى بالإدارة بلاء حسناً، ألا وهو وكيل وزارة الداخلية السابق د. إبراهيم العواجي، حيث دعا في حوار نشرته صحيفة الاقتصادية قبل فترة من واقع تجربته الطويلة إلى التعامل مع روح النظام وهدفه، وليس الوقوف عند نص حروفه وفقرات مواده، فالنظام يكتسب مرونته من منفذه وليس نصاً مقدساً لا يجوز المساس به.
خامسها: الذكر الحسن للإِنسان عمره الثاني، وحب الثناء غريزة فيه وهو أمر مشروع إذا كان الإِنسان يحب أن يُحمد بما يفعل، لأن الممقوت أن يحب الإِنسان أن يُحمد بما لم يعمل، وأنتم لكي تُحمدوا بما فعلتم في حياتكم.. ولكي يبقى الذكر الطيب لكم بعد مغادرتكم الكرسي أو رحيلكم إلى ما تحت الكرسي.. أبقوا لكم أعمالاً كبيرة لوطنكم وأبناء وطنكم، وهذه الأعمال بقدر ما تنالون فيها رضا الله، تخدمون بها هذا الوطن وتخدمون أهلكم، ثم إن ذلك هو الذي يبقى لكم ويلبسكم أجمل الذكر وأندى الذكريات وأنصع الثناء الذي يسعدكم في هذه الحياة.
ألم يقل أحد حكماء العرب الأحنف بن قيس:
ما ترك الآباء للأبناء مثل تطويق أعناق الناس بالمعروف.
فطوِّقوا يا أصحاب المعالي - زادكم الله من المعالي - إخوانكم المواطنين بالمعروف والإنجاز ليبقى ذلك لكم ولأولادكم من بعدكم.
وبعد:
لتجعلوا من الوزارة نهر خير يمتد عبر ضفافكم إلى الوطن وأبناء الوطن، لا وادياً جافاً لا يبقي زرعاً ولا يثمر خيراً.
إنكم سوف تذكرون أيها الوزراء ما أقول لكم عندما تودعون كراسيكم بعد عمر طويل، وإننا أيها الوزراء الأعزاء نستشرف أن تكون ذكراكم في هذه الوزارة عطاءً عاطراً وذكراً زاهياً، وأجراً باقياً، بحول الله).
أعرف وتعرفون أن الأمانة ثقيلة، لكنكم بإذن الله أهل لها فاستعينوا بربكم ومن استعان بالله كفاه وأعانه.