الجزيرة - الرياض:
توصل تقرير اقتصادي حول «تحولات أسواق النفط والتحديات المالية في المملكة» إلى ثلاثة سيناريوهات للسياسة المالية إزاء تقديرات مختلفة للميزانية العامة، وذلك في ضوء التوقعات المستقبلية لمستوى أسعار النفط. وتوقع التقرير الصادر عن دائرة الاقتصاد والبحوث في «جدوى للاستثمار»، ميزانية متعادلة بموجب السيناريو الأول المرجح لأسعار النفط ما بين 83 - 85 دولاراً للبرميل للعامين 2015-2016. حيث يرى أن الحكومة ستكون، في حال وجود ضغوط لتفادي التأثير النفسي السلبي المرتبط بحدوث عجز في الميزانية، في حاجة إلى خفض الإنفاق إلى المستوى الذي يحقق تعادل الميزانية. وبناءً على نتائج سيناريو سعر النفط المرجح أعلاه، تحتاج الحكومة لخفض الإنفاق الرأسمالي بنسبة 20.6 بالمائة و 47.8 بالمائة للعامين 2015 و2016 على التوالي.
كما يؤدي خفض الإنفاق الحكومي لتحقيق ميزانية متعادلة إلى تأثيرات مهمة على أداء القطاع الخاص، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار الاعتماد الكبير لبعض القطاعات -خاصة قطاعي التشييد والنقل- على مشروعات البنى التحتية العملاقة التي تنفذها الدولة. وإذا كان خيار الحكومة هو خفض الإنفاق، توقع أن يتجه الخفض إلى المساعدات الخارجية ومشروعات البنى التحتية غير الضرورية. وذلك على اعتبار أن البنيات التحتية غير الضرورية كالإنفاق على الأنشطة الترفيهية والأعمال المرتبطة بها، تعد ذات أولوية متأخرة نسبياً من حيث أهداف التنمية والرعاية الاجتماعية. أما مشروعات البنى التحتية الاجتماعية ذات الأولوية الكبيرة، كالمدارس والمستشفيات والمساكن، فيتوقع أن تبقى هي المستفيدة من الإنفاق الحكومي، رغم احتمالات خفض الإنفاق، وذلك بسبب تأثيرها الاجتماعي الهام فضلاً عن انعكاساتها على أداء القطاع الخاص. وفي ظل سيناريو خفض النفقات هذا، ينتظر أن يتباطأ نمو الناتج الإجمالي الفعلي غير النفطي إلى 4 بالمائة و3.8 بالمائة للعامين 2015 و2016 على التوالي. هذا التباطؤ مقروناً مع نمو سلبي في قطاع النفط، سيؤدي إلى تراجع نمو الناتج الإجمالي الفعلي الكلي إلى 3.1 بالمائة و2.8 بالمائة للعامين 2015 و 2016 على التوالي.
أما السيناريو الثاني للميزانية العامة فسيكون في ظل أسعار النفط المرتفعة ما بين 100 و95 دولاراً للبرميل للعامين 2015-2016. ويتوقع التقرير على ضوء سيناريو الأسعار المرتفعة للنفط، عجز في الميزانية بحجم أصغر للعامين 2015 و2016 عند 0.8 بالمائة و4.6 بالمائة من الناتج الإجمالي على التوالي.. حيث تقوم الفكرة الرئيسية في هذا السيناريو على تراجع حجم النفط الذي تنتجه المملكة كعامل رئيسي لإحداث ارتفاع قوي في أسعار النفط. ورغم أن هذا الافتراض سيؤدي إلى سحب نمو الناتج الإجمالي لقطاع النفط إلى المنطقة السالبة، لكنه في النهاية سيقود إلى زيادة طفيفة في إيرادات النفط مقارنة بالسيناريو المرجح. وبموجب هذه الافتراضات، فإن نمو الناتج الإجمالي الكلي سيتباطأ إلى 2.5 بالمائة على أساس المقارنة السنوية في عام 2015 وإلى 3.2 بالمائة للعام الذي يليه. ويتطلب إعداد ميزانية متعادلة بموجب هذا السيناريو لأسعار النفط، خفض للإنفاق الرأسمالي بنسبة 5.5 بالمائة و36.1 بالمائة للعامين 2015 و2016 على التوالي. في هذه الحالة، سيسجل الناتج الإجمالي الفعلي للعامين 2015 و2016 المزيد من التباطؤ لينمو بنسبة 2.4 بالمائة و2.8 بالمائة على التوالي. هذا التباطؤ يعود إلى تأثير خفض الإنفاق الرأسمالي على الاقتصاد غير النفطي. ويتوقع أن يسجل هذا الأخير نمواً بنسبة 4.2 بالمائة و3.8 بالمائة في عامي 2015 و 2016 على التوالي.
فيما السيناريو الثالث للميزانية العامة سيكون في ظل أسعار النفط المنخفضة ما بين 79 و78 دولاراً للبرميل للعامين 2015-2016. وبموجب هذا السيناريو، رجح التقرير انخفاض أسعار النفط وحجم الإنتاج على حد سواء. لكن التراجع في الإنتاج توقعه أن يأتي طفيفاً مقارنة بسيناريو الأسعار المرتفعة، ما يؤدي إلى الإبقاء على نمو الناتج الإجمالي لقطاع النفط وبالتالي نمو الناتج الإجمالي الكلي دون تغيير تقريباً. وعلى ضوء هذه الافتراضات، ستسجل الميزانية عجزاً أكبر يصل إلى 4.6 بالمائة من الناتج الإجمالي المحلي للعام 2015، ثم ينزلق إلى 7 بالمائة عام 2016. وبناءً على افتراض أن أسعار النفط وحجم الإنتاج سيشهد كلاهما تراجعاً في هذا السيناريو مقارنة بالسيناريو المرجح، فإن الخفض المطلوب في الإنفاق لمعادلة الميزانية سيكون في هذه الحالة كبيراً. ويقتضي هذا السيناريو خفض الإنفاق الرأسمالي بدرجة كبيرة، تصل إلى 34 بالمائة و59 بالمائة للعامين 2015 و 2016 على التوالي. ونتيجة لهذا الخفض الكبير، فإن نمو الناتج الإجمالي للقطاع غير النفطي سيتباطأ إلى 3.8 بالمائة و3.7 بالمائة في عامي 2015 و2016 على التوالي.
التوقعات المستقبلية لأسعار النفط
مع الوضع في الاعتبار مختلف العوامل بعيدة المدى وقصيرة المدى التي أشرنا إليها أعلاه، لم يكن متوقعاً أن يأتي هبوط أسعار النفط بطريقة مفاجئة. كانت المفاجأة هي سرعة الهبوط الذي تسبب في الغموض بشأن الاتجاه المستقبلي لأسعار النفط. وإذا نظرنا إلى المستقبل، يمكن القول إن هناك عدة عوامل ربما تؤدي إلى مستويات مختلفة من أسعار النفط على مدى العامين القادمين، وفيما يلي استعراض لثلاثة سيناريوهات متوقعة.
الأسعار المرتفعة
هناك مجموعة عوامل ستؤدي إلى وصول أسعار النفط إلى أعلى مستوى في السيناريوهات التي نتوقعها. في حالة انقطاع الإمدادات من المناطق غير المستقرة سياسياً التي تعاني مشاكل جيوسياسية، كالعراق وإيران وروسيا - أوكرانيا، فمن المرجح ارتفاع الأسعار بدرجة كبيرة وعودتها إلى مستوى يفوق الـ 100 دولار للبرميل. هناك عامل آخر قد يدفع بالأسعار باتجاه الأعلى، وهو أسرع من مجرد انتعاش اقتصادي متوقع، ذلك هو حدوث تحسن جذري في الاقتصاد في الاتحاد الأوروبي واليابان. وأخيراً، فإن أي خفض مستقبلي في الإنتاج من منظمة أوبك (بما في ذلك السعودية) سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار إلى السيناريو الأعلى الذي يبلغ 100 دولار للبرميل في عام 2015 و95 دولاراً للبرميل عام 2016م.
ورغم أن جميع تلك التطورات محتملة الحدوث، إلا أننا نراها غير مرجحة. فكما ذكرنا سابقاً، فإن الإمدادات العراقية مستقرة، كما لا توجد مخاوف جديدة بشأن الإمدادات الروسية، خاصة في ظل أهمية الإيرادات النفطية للاقتصاد الروسي وعدم وجود بدائل لأكبر المشترين لهذا النفط، هو الاتحاد الأوروبي. فيما يتعلق بالاقتصاد العالمي، من المعلوم أن الاقتصاد الياباني انزلق مؤخراً إلى حالة الركود، كما أن الكثير من دول الاتحاد الأوروبي لا تزال تعاني رغم التوقعات بتحسن الاقتصاد الأوربي عام 2015، مستفيداً من النمو القوي في ألمانيا.
أخيراً، فإن حدوث انخفاض في إنتاج «أوبك» لايزال غير مرجح في المدى المنظور، وقد كشف الاجتماع الأخير وجود خلاف عميق بين أعضاء المنظمة بشأن كيفية التعامل مع هبوط أسعار النفط. ومما يزيد الوضع تعقيداً، أن الدول التي استخدمت سعر تعادلي للنفط منخفض في ميزانياتها وهي في وضع أفضل يمكّنها من خفض إنتاجها (السعودية والكويت والإمارات) هي أيضاً أقل الدول حماساً لخفض إنتاجها، حيث تمتلك تلك الدول احتياطيات مالية ضخمة وتستطيع تحمل آثار انخفاض الأسعار لفترة طويلة.
الأسعار المرجحة
نتوقع أن يؤدي انتعاش في الاقتصاد العالمي مع نمو قوي في الأسواق الناشئة، خاصة الصين، وبعض الارتفاع الطفيف في اقتصاديات الاتحاد الأوروبي واليابان خلال العامين القادمين إلى انتعاش أسعار النفط لتصل إلى نحو 85-83 دولاراً للبرميل كمتوسط للعامين 2015-2016. ورغم أن النمو العالمي ظل متعثراً خلال عام 2014، لكننا نتوقع تحسن الوضع حيث ينتظر أن يصبح الاقتصاد الأمريكي أقوى في عام 2015، الأمر الذي يساعد على تعزيز اقتصاد الاتحاد الأوروبي، كما أن تسهيل السياسة النقدية في الاقتصاد الياباني ستحميه من المزيد من التدهور.
وفي اعتقادنا أن هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحاً. فالأسعار المنخفضة للنفط هي نفسها تزيد احتمالية انتعاش الاقتصاد العالمي لأنها تقلل تكاليف استيراده بالنسبة للدول غير المنتجة للنفط. في الواقع، يتوقع أن يؤدي تأثير انخفاض أسعار النفط بنحو 20 دولاراً للبرميل إلى زيادة قدرها 0.75 نقطة مئوية في الناتج الإجمالي للاقتصاد العالمي خلال فترة عامين.
الأسعار المنخفضة
ويعد سيناريو الأسعار المنخفضة هو غير المفضل لمعظم منتجي النفط الرئيسيين، لكنه لا يشكل كارثة لصناعة النفط. ففي حال عدم حدوث انقطاعات جديدة في الإمدادات النفطية نتيجة للأوضاع الجيوسياسية، مع تحسن طفيف في الاقتصاد العالمي ونمو في الاقتصاد الأمريكي وحده، نتوقع تراجع الأسعار إلى 79-78 دولاراً للبرميل للعامين 2015-2016. وستكون الدول ذات الإنفاق الكبير والتي تضع ميزانيتها على سعر تعادلي مرتفع للنفط، كإيران وفنزويلا، غير مرتاحة لهذا السيناريو، كما أن بعض الشركات المنتجة للنفط الصخري في الولايات المتحدة ربما توقف عمليات الإنتاج.
تراجع الأسعار واستجابة المملكة
جاءت استجابة المملكة لتراجع أسعار النفط من خلال خفضها لأسعار البيع الرسمية، حيث قامت بخفض الأسعار لجميع مناطق التصدير (أوروبا وأمريكا وآسيا). وشهدت المملكة في عام 2014 منافسة متزايدة في اثنين من أسواق صادراتها الرئيسية، هما الولايات المتحدة والصين. وبالنسبة للولايات المتحدة، أصبحت صادرات السعودية من الخام الثقيل تحت ضغط من الواردات الكندية. وبقيت الصادرات السعودية إلى الولايات المتحدة مستقرة عند 1.2 مليون برميل في اليوم خلال النصف الأول لعام 2014، لكنها هبطت إلى ما دون مليون برميل في سبتمبر، بينما سجل إجمالي واردات الولايات المتحدة من كندا في نفس الوقت أعلى مستوى له على الإطلاق، عند 3.5 ملايين برميل في اليوم. كذلك، تواجه السعودية منافسة في السوق الآسيوية، حيث عمد مصدرو نفط آخرون في الشرق الأوسط إلى خفض أسعارهم، تمشياً مع مسار الأسعار المتراجعة. وهناك عدد من الدول تتنافس للحصول على حصة سوقية في هذا المنطقة التي تحقق نمواً، خاصة السوق الصينية، حيث خسر الخام السعودي مؤخراً لصالح العراق وإيران وروسيا.
ويشير قرار السعودية المتمثل في خفض أسعار بيع النفط، بدلاً عن خفض الإنتاج، إلى أنه في ظل سوق نفط عالمية تشهد منافسة حادة، مع وفرة كبيرة في الإمدادات من دول خارج «أوبك»، لا تشكل الأسعار أولوية في الوقت الحالي، بل تعتبر زيادة الحصة السوقية، أو بالأحرى المحافظة عليها، هو الأولوية الكبرى. نتيجة لذلك، وبناءً على سيناريو الأسعار المرجح، لا نرى هبوطاً حاداً في إنتاج المملكة خلال العامين القادمين.
ويتوقع أن يبلغ متوسط الإنتاج لعام 2014 ككل 9.7 ملايين برميل في اليوم؛ يقل هذا المتوسط بدرجة طفيفة إلى 9.6 ملايين برميل في عام 2015 ثم إلى 9.4 ملايين برميل للعام 2016. لكن، في حالة سيناريو السعر المرتفع، والذي يفترض خفض الإنتاج من قِبل «أوبك»، والذي بموجبه تخفض المملكة إنتاجها بنحو 400 ألف برميل يومياً، فإن الإنتاج السعودي سيتراجع إلى 9.1 ملايين برميل في عام 2015 و9 ملايين برميل عام 2016. كذلك، ربما ينخفض إنتاج المملكة في حال تحقق سيناريو الأسعار المنخفضة. وفي هذا السيناريو، يتوقع أن ينخفض إنتاج المملكة إلى 9.5 ملايين برميل عام 2015 وإلى 9.3 ملايين برميل في عام 2016.
التأثير على الاقتصاد السعودي
بناءً على السيناريو المرجح لتوقعات أسعار النفط، نقدّر حدوث عجز في الميزانية بنسبة 2.7 بالمائة و5.7 بالمائة من الناتج الإجمالي للعامين 2015 و 2016 على التوالي. ويتوقع أن يأتي هذا العجز بصفة رئيسية من تراجع إيرادات النفط، حيث ينتظر أن يبقى الإنفاق الجاري والرأسمالي على حد سواء مرتفعين. يحتمل أن يؤدي انخفاض أسعار النفط إلى المستوى الذي ينتج عنه عجز في الميزانية العامة للدولة إلى خلق تأثير نفسي سلبي على أداء القطاع الخاص. ويقوم توقع مثل هذا التأثير السلبي على تجارب سابقة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حيث نتج عن العجز في الميزانية لجوء الحكومة إلى تأجيل دفع المستحقات إلى الموردين والمقاولين في القطاع الخاص، وكذلك إبطاء تنفيذ المشروعات الجديدة والقائمة. ولا نعتقد أن تلك التجارب تمثل المنطلق المناسب لفهم الوضع الاقتصادي الحالي في المملكة.
في اعتقادنا أن الوضع القوي للاحتياطيات الأجنبية التي تبلغ أكثر من 95 بالمائة من الناتج الإجمالي المحلي، إضافة إلى انخفاض الدين العام إلى أقل من 2 بالمائة من الناتج الإجمالي، سيضعان الحكومة في وضع مريح يتيح لها التأقلم التدريجي مع المستوى الجديد لأسعار النفط المنخفضة، وكذلك تفادي إجراء خفض حاد في برامج الصرف في الميزانية يؤدي إلى إعاقة أداء القطاع الخاص. لذا، فإن الإنفاق الحكومي سيبقى هو المحرك للاقتصاد. هذا الاستعداد والقدرة على دعم الاقتصاد سيكون مهماً للعام القادم، ذلك أن الأحداث خارج المملكة تتسبب في خفض مستويات الثقة وربما تضر بالاقتصاد. وتأتي المخاطرة الاقتصادية الرئيسية من الانتعاش الضعيف للاقتصاد العالمي الذي سينعكس على سوق النفط العالمي. كذلك، يتوقع أن يبقى الوضع السياسي غير المستقر في المنطقة قائماً وسيواصل جعل المستثمرين الأجانب يميلون إلى الحذر. مثل هذه الأوضاع ستستمر تؤثر بشدة على مبيعات الشركات التي تصدّر منتجاتها إلى هذه المنطقة؛ كما أنها تشكل مخاطر ترفع مستوى تذبذب سوق الأسهم وأسعار النفط.