الاستدانة أو الدَّيْن كما يحلو للبعض تسميته أصبح ظاهرة مخيفة في مجتمعنا. تلعب البنوك المحلية دوراً مهماً وحيوياً في تفشيه وانتشاره في أوساط المجتمع السعودي من خلال القروض الشخصية. فقد وصل الحال ببعض البنوك الولوج إلى عقر دار أحدنا لتقديم العروض التي يقدمها البنك من خلال رسالة نصية عبر الهاتف المحمول. بل قد يصل الحال ببعضنا الاستدانة من مصادر غير البنوك.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ، قَالَ: كُنَّا يَوْمًا جُلُوسًا فِي مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ يده عَلَى جَبْهَتِهِ، فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا نَزَلَ مِنَ التَّشْدِيدِ»، فَسَكَتْنَا وثم تفَرِقْنَا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ سَأَلْتُهُ فقلت يا رسول الله: مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نَزَلَ؟ قَالَ» فِي الدَّيْنِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى دَيْنُه... أمر عظيم وخطب جلل تغافل عنه الكثيرون.
يقول الشاعر:
بل الدهر أدبني، والصبر رباني
والقوت أقنعني، واليأس أغناني
وحنكتني من الأيَّام تجربةً
حتى نهيتُ الذي قد كان ينهاني
الدَّيْن مشكلة ومعضلة فكم جر على اصحابها من التبعات واللوعات، كيف لا والدَّيْن يوقع صاحبه في كبائر الذنوب والخطوب والنفاق والكذب والتملق، وهروب من أصحابها وتحملق. يذكر (بضم الياء) هنا حسب آخر إحصائية وردت أن مستوى الديون الاستهلاكية في المجتمع السعودي مئتان وخمسة وثمانون مليار ريال. وما هو حلي بالذكر هنا أن المملكة العربية السعودية تحتل في المرتبة الأولى على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي من حيث حجم القروض الشخصية. يعني أن سداد بعضها سيبلغ الورثة وليس صاحب الدَّيْن فقط. والأقساط الشهرية تستهلك ما نسبته ما بين ثلاثة وثلاثين إلى خمسين في المئة من دخل الفرد العامل البطاقات الائتمانية أو القنبلة الموقوتة كما يحلو لي أن اسميها، ارتفع نسبة استخدامها إلى ثلاثمائة في المئة خلال السنوات الأخيرة.
ما الذي جعلنا نحمل على كاهلنا مثل هذه الديون؟ هل الغلاء الذي نشتكيه، أم حب الدنيا والمظاهر والتفاخر التي أنهكت كاهل الكثير من الناس؟ مظاهر في المناسبات في الزواج في المركب والملبس والمشرب حتى الجوالات. وهذا كم جر كثيرا من الويلات والهموم وقد كان يقال: الدَّيْن همٌّ بالليل ومذلة بالنهار، ويقال: إياكم والدَّيْن فإنَّ أوله همّ وآخره حرب، ويقال أيضاً: الدَّيْن رق، فليختر أحدكم أين يضع رقه، والرق هنا الفقر أو الضعف، وكان يقال: الأذلة أربعة: النمام والكذاب والفقير والمديان، ويقال: حرية المسلم كرامته، وذله دَيْنه، وعذابه سوء خلقه، وقال عمر بن عبد العزيز: الدَّيْن وقر طالما حمله الكرام، وكان يقال من علامة الأحمَق: الجهلُ والسَّفاهة، والعُجب، والغفلةُ والتفريطُ والخُلُوُّ من العلم، ومُعاداةُ الأخيار، ونقلُ الأخبار، وكثرةُ المِراء، والعداوات، لا يعرِفُ لمن فوقَه قدرًا، ولا يأمنُ من يصحَبُه غدرًا. ولئن كان الإسلام حذّر من الربا والقمار والسرقة والغش والإسراف والتي هي إما ضرب أو سبب من أسباب الديون، إلا انه حذر كل الحذر من التهاون في الدَّيْن. كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (إِيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ فإنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ وَآخِرَهُ حَرْبٌ) أين نحن من أصحاب الحقوق، ولنحذر المطل والتأخير في قضاء الدَّيْن، أو التساهل وعدم الاكتراث في أدائه فدين الآدمي في نظر الإسلام أمانة عظمى، ومسؤولية كبرى قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا} (58) سورة النساء، ولو علم كل منا الشروط التي أجازها العلماء للدَّيْن لما تساهل الكثيرون في قضية الدَّيْن، وهي أن يكون المستدين عازما على الوفاء. أن يعلم أو يغلب على ظنه قدرته على الوفاء. أن يكون الدَّيْن في أمر مشروع. ولمن تحمل هم الدَّيْن سرني هنا أن أوصل له رسالة وهي أن يأخذ بوصية رسول الله ما روى أبو داود عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلَّم - دخل ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: يا أبا أمامة ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟ فقال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: أفلا أعلمك كلاماً إذا أنت قلته أذهب الله عزَّ وجلَّ همك وقضى عنك دينك؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: «قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من اجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدَّيْن وقهر الرجال. وقد قرن (بضم القاف) بين الدَّيْن والقهر كما قال الحكماء لان الدَّيْن طعن في أقدار الرجال قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله عزَّ وجلَّ همي وقضى عني ديني.. وقد يقول البعض قد دعونا مرات فلم يجب لنا... والجواب في ذلك هو اليقين الذي فرق بيننا وبينهم... وحتى لو لم يستجب لنا حسبنا اتباع هدي النبي في ذلك باتباع سنته.
يقول الشاعر:
أوليتني نعماً أبوح بشكرها
وكفيتني كل الأمور بأسرها
فلأشكرنّك ما حييت وإن أمت
فلتشكرنّك أعظمي في قبرها
لندع المظاهر ونكتفي بالقناعة التي قيل عنها إنها كنز لا يمكن أن ينضب أو ينتهي، ولو فكرنا في المعنى الحقيقي لعبارة القناعة كنز لا يفنى لكان ذلك سبباً في راحة الكثيرون منا.
كفانا الله وإياكم شر الدَّيْن وما يجر خلفة من ويلات اللهم آمين.