عندما تنتقل بين البشر ترى العجب والتفاوت بينهم؛ فهذا يرى نفسه أقل حظاً من غيره في المال، وآخر في الذرية، وثالث في السلطة، ورابع في العلم، وخامس في المكانة الاجتماعية.. وغير ذلك، فهم يعيشون التعاسة بمختلف وجهات النظر، وإن حاولوا السيطرة على مشاعرهم تجاه الآخرين. وكثيراً ما ترى الحسد والغيبة منتشرة لديهم؛ فهم في الغالب يقعون فريسة لليأس، ينقلهم الهم والغم في نواحٍ متعددة، معتقدين أن الغنى الحقيقي هو غنى الأموال والمناصب والوجاهات، وينسون أن الكثير ممن يملك الدنيا فقراء النفس، ومساكين القلب، أعمى الطمع قلوبهم قبل أعينهم عن مصدر السعادة والغنى الحقيقي، ألا وهو (الرضا).
(الرضا) بما قسم الله لك في هذه الحياة هو بداية السعادة واستمرارها. ولكن السؤال الأهم: كيف تصل إلى الرضا بما قسم الله لك؟
السعيد الحق هو من رضي بما قسم الله له, وصبر بمواقع القضاء، خيره وشره, وأحس وذاق طعم الإيمان بربه, كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رضي بِاللَّه رَبًّا وَبِالإسلام دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً».
وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِي، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَالَ: «رَضِيتُ بِالله رَبًّا، وَبِالإسلام دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَجَبَتْ لَه الْجَنَّةُ».
فعندما ترضى بما قسم الله لك، وتصبر بمواقع القضاء، خيره وشره وتحس، وتذوق طعم الإيمان بربك، فإنك هنا وضعت قدمك على طريق السعادة، الذي تتذوّقه بمذاق الرضا؛ فللرضا حلاوة وعذوبة يفوقان غيرهما من المذاقات، كما له استقرار وأمن نفسي وروحي، يحميه من تقلّبات الزمن.
تصل للرضا عندما تدرك تماماً أن الله جعل هذه الدنيا دار اختبار وامتحان، مَن اجتازه بنجاح انتقل لدار الجزاء مخلَّداً بين الجنان. قال رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -: «عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم. فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط».
القلب السليم هو القلب المطمئن، الذي رضي بما قسم الله تعالى له، واطمأن بذكره - عزَّ وجلَّ - {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
وبلا شك، فإن للرضا حلاوة تفوق أي حلاوة، وعذوبة دونها كل عذوبة، وله من المذاق النفسي والروحي والقلبي ما يفوق مذاق اللسان.
إن الاضطراب والتفرّق والذل والخوف والفوضى كل ذلك مرهونٌ - سلبًا وإيجابًا - بالرضا بالدين وجودًا وعدمًا. قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْه وَهُوَ فِي الآخِرَة مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
والرضا هو السياج الذي يحمي المسلم من تقلبات الزمن, وهو البستان الوارف الظلال الذي يأوي إليه المؤمن من هجير الحياة.
كما تصل إلى الرضا إذا اعتقدت بكمال الله سبحانه وتعالى، وبإحسانه إلى عباده، وأنه عليك أن ترضى بقضائه؛ لأن حكمه عدل، لا يفعل إلا خيراً وعدلاً، ولأنه لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيراً له.
والوصول إلى الرضا يكون بمجاهدة النفس على زيادة الإيمان، وتسليم الأمر لله تعالى، حتى يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
والإنسان بدون الرضا يقع فريسة لليأس, وتتناوشه الهموم والغموم من كل حدب وصوب. قال تعالى: {قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}. ولقد ضرب لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النموذج والمثل الأعلى في الرضا بما قسم الله تعالى. فعَنْ عَبْدِ الله بن مسعود، قَالَ: اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حَصِيرٍ، فَأَثَّرَ في جَنْبِه، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ جَعَلْتُ أمسحُ جَنْبَه، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه، أَلاَ آذَنْتَنَا حَتَّى نَبْسُطَ لَكَ عَلَى الْحَصِيرِ شَيْئًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «مَا لي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا وَالدُّنْيَا، إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ ظَلَّ تَحْتَ شَجَرَة، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا». قال ابن القيم في مدارج السالكين: «ومن ذلك أن يعلم العبد أن أعظم راحته وسروره ونعيمه في الرضا عن ربه تعالى وتقدّس في جميع الحالات، فإن الرضا باب الله الأعظم، ومستراح العارفين، وجنة الدنيا.. فجدير بمن نصح نفسه أن تشتد رغبته فيه، وأن لا يستبدل بغيره منه... وأن يعلم أن الرضا يوجب له الطمأنينة وبرد القلب وسكونه وقراره، والسخط يوجب اضطراب قلبه وريبته وانزعاجه وعدم قراره».