إعداد وحوار - فهد العجلان - نائب رئيس التحرير / تصوير - التهامي خليل:
يقال إن لبيد ابن ربيعة الشاعر الجاهلي مر مع نَفَر من القراء ببيت من العرب بعد إسلامه وعزوفه عن قرض الشعر، فسمع بيتا طرب له، فلما سألوه قال: أنتم معاشر القرَّاء تعرفون سجدة القرآن، وأنا أعرف سجدة الشعر.
تذكرت موقف الشاعر لبيد بن ربيعة حين سألني بعض الزملاء عن حرصي واهتمامي بلقاء البروفيسور روبرت ميرتون، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1997، وأستاذ المالية بمعهد ماساشيوستس العريق للتكنولوجيا وكأن لسان حالي يقول لهم أنا أعرف سجدة الاقتصاد !
تناول الحوار مع البروفيسور ميرتون جوانب متعددة في علاقة القطاع المالي بالتنمية والنمو الاقتصادي، وباعتباره أول حوار له مع صحيفة عربية كان لا يمكن لصحفي وتلميذ اقتصاد مثلي أن يتجاوز حضور هذا البروفيسور دون طرح الأسئلة الشائكة حول المشتقات المالية، خصوصا أنه أحد أساطينها المعرفيين والخبير بسبر أغوارها، فإلى الحوار:
التطورات التكنولوجية
* بروفيسور ميرتون، تدركون أن التطورات التكنولوجية في العصر العولمي ساهمت بشكل كبير في تطوير أسواق المال، بحكم خبرتكم كيف أثر ذلك على الأسواق المالية وما أثرها؟
- النظام المالي العالمي الآن يتجه إلى المزيد من العولمة مع التطورات التي نشهدها في مجال الاتِّصالات وتقنية المعلومات، بل أصبحت عولمة هذا النظام أمرا مفروغا منه في واقع الأمر. فتلاميذي في معهد ماساشيوستس مثلا ينتمون إلى مختلف الدول، ويتبادلون التواصل عبر هذه الدول رغم تعدد لغاتها، وهذا شيء نفخر به في المعهد. ولأن هذا النظام يستخدم تقنيات عالية في نقل ومعالجة المعلومات، فإنَّ الحكومات - خصوصاً حكومات الدول النامية، التي لا تملك ما يكفي من الأنشطة الاقتصادية التي تمكنها من تنويع المخاطر ضمن حدودها الجغرافية والجيوسياسية - يمكنها الاستفادة منها على أوسع نطاق في تنويع المخاطر وتحويلها إلى المكان المناسب. هذه الحقيقة أكدها علماء كثر من أمثال دوجلاس نورث، المؤرخ الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، الذي أشار إلى حقيقة أن النظام الاقتصادي يعمل بكفاءة أعلى في الدول المتقدمة التي تملك إمكانيات النمو الاقتصادي السريع. ومن هؤلاء العلماء أيضاً روبرت شيلر، الحائز أيضاً على جائزة نوبل في الاقتصاد، الذي أوضح أن النمو الاقتصادي في القرن العشرين لم يحدث بسبب ارتفاع الكثافة السكانية أو الادخار المنظم، بل حدث بسبب التطور التكنولوجي.
هذا التطور التكنولوجي الذي تحدث عنه كل من نورث وشيلر سوف يظل حبيس المختبرات ما لم يتغلغل استخدامه في مفاصل الاقتصاد لكي يسهم بدوره في زيادة الإنتاج وتعظيم كفاءة العاملين. ما أريد التركيز عليه هنا هو أن تعافي النظام المالي عامل مهم من عوامل النمو الاقتصادي. وإذا سلمنا بذلك فيمكننا الانتقال إلى النقطة المهمة التالية، وهي أن النظام المالي وفهم مكوناته واستغلاله في تحقيق التنمية موضوع شائك للغاية. فنحن جميعا، على سبيل المثال، متفقون على أن التقنيات التي أنتجت الطائرة 777 عالية جدا مقارنة بالتقنيات التي سبقتها في مجال الطيران، ولذا نؤمن جميعا بأن الذين أنتجوها قد تلقوا تدريبا عاليا، فلما لا ينسحب هذا الفهم على النظام المالي؟ ربما يعود ذلك إلى أننا جميعا نتبادل المال يوميا، وبناء على ذلك يتراءى لنا أن أي فرد يمكنه استيعاب المفاهيم المالية بسهولة. وهذا بالطبع ليس صحيحا، فالعلوم المالية معقدة جدا وتتطلب تدريبا على مستوى عال. لذا يجب علينا، إذا أردنا أن نتفادى أي أزمة مماثلة في المستقبل، أن نتوجه على المستوى البعيد نحو تعليم العلوم المالية.
البرنامج الإصلاحي للمعهد
* ألاحظ بروفيسور ميرتون أنكم تركزون في حديثكم على تطوير العلوم المالية وأثرها في الإصلاح المالي، فماذا قدمت المؤسسات الأكاديمية والأكاديميون في هذا الجانب؟
- نحن في معهد ماساشيوستس للتكنولوجيا، وهو من أرقى المؤسسات الأكاديمية على المستوى العالمي في مجال تدريس العلوم المالية، نستقدم الكفاءات المميزة حيثما وجدناها، كما أننا نعنى كثيرا بالجودة، ونتمنى أن نرى الأنظمة المالية للدول كافة في وضع أفضل، خصوصاً الدول ذات النفوذ الاقتصادي الكبير، لأننا على يقين بأن ذلك سيعود بالنفع على النظام المالي العالمي ككل. لذلك تجدني أشيد بالتجربة الصينية في هذا الإطار لأن ما وصلت لا يصب في مصلحتها فحسب، بل في مصلحة النظام المالي العالمي في نطاقه الواسع.
وبعد الأزمة المالية عكفنا في المعهد بالتفكير في الخطوات التي ينبغي علينا اتباعها للإسهام بدورنا في إصلاح النظام المالي العالمي وتطويره، واتخذنا في سبيل ذلك قرارات عديدة من أهمها تكثيف البحوث وإنشاء مركز للسياسات المالية، وقد بدأ هذا المركز عمله بالفعل. ومن أهم الخطوات التي اتخذناها بعد الأزمة مباشرة قبل ست سنوات تقريبا إنشاء برنامج يستهدف تدريب أفضل الطلاب تدريبا مكثفا في الجوانب المختلفة للنظام المالي، مثل المبادئ المالية وتحليل البيانات والاستثمار وغيرها، ما يعني أن البرنامج يركز على المال، ولا يعنى بالرياضيات مثلا وغيرها من المواد الطرفية ذات الصلة. وفي يقيننا أن المستفيدين من مخرجات هذا البرنامج غير محصورين في المؤسسات التقليدية، مثل القطاع الخاص والبنوك التجارية والبنوك الاستثمارية.
* بروفيسور ميرتون هل رؤيتكم في هذا التطوير تتجه إلى القطاع الخاص والبنوك التجارية والاستثمارية فقط... ألا ترون أن الأمر أيضاً يتصل بالجهات الرسمية والبنوك المركزية؟
- الأمر يتجاوز ذلك بالطبع إلى القطاعات الرسمية، مثل البنوك المركزية والجهات التشريعية، لأنه اصبح مطلوب منها بشكل أكبر خصوصا بعد الأزمة المالية بذل جهد أكبر في مراقبة النظام المالي العالمي، وهو دور يضع على عاتق هذه القطاعات الرسمية عبء التعرف على تعقيدات النظام المالي العالمي والمسببات التي يمكنها التأثير على أدائه، مثل المشتقات المالية وإدارة المخاطر. كل ذلك يجب التدرب عليه وتلقي الخبرة فيه في المعاهد المتخصصة، لأنه من الصعب تعلمه بالممارسة والاحتكاك أثناء العمل، لأن الأسلوب التي يؤدي به العاملون في المجال حاليا مهامهم هي الطريقة المثلى التقليدية.
وقد ساهمنا بدور كبير في هذا الإطار في معهد ماساشيوستس للتكنولوجيا، إِذْ استطعنا تخريج ألف متخصص انضموا إلى المعهد من خارج الولايات المتحدة. هؤلاء القادمون من مختلف أنحاء العالم أتوا إلى المعهد لكي يعيشوا معا فيه لفترة عام تلقوا خلاله تدريبا عاليا ضمن برنامج المعهد لتأهيل متخصصين لإدارة الأنظمة المالية، كل في بلده، ومن ثم تفرقوا إلى بلدانهم. وهم خريجون في مقتبل العمر، لكنهم سوف يتلقون مع تقدم العمر الكثير من الخبرة التي تؤهلهم لتولي مهام كبيرة في المستقبل. وبدعم من التطورات المتلاحقة في مجال الاتِّصالات وتقنية المعلومات وسوف يوالون تواصلهم في المناسبات المختلفة من أجل تبادل الأفكار، دون أن يكونوا في كل الحالات متفقين في هذه الأفكار. ولا شك أن مثل هذا التواصل بين هؤلاء الشباب مهم جدا لتحقيق النجاح بعد تلقيهم الدراسة التي أهلتهم للتحدث، بعضهم إلى بعض، بلغة واحدة هي لغة المال.
لقد مرت فترات على الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضي عانى فيها نظامها المالي من الجمود، بالإضافة إلى أن فترة السبعينيات شهدت صدمات كبيرة، أكبر في اعتقادي من الصدمة التي أصابت النظام في عامي 2008 و2009. ونتج عن ذلك أن عانت الولايات المتحدة من أول أزمة نفطية، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات التضخم والبطالة. كل ذلك أدَّى إلى إدخال العديد من الإصلاحات في النظام المالي الأمريكي، منها على سبيل المثال تحسين نظام المعاشات وإنشاء أسواق المشتقات المستقبلية وإصلاح نظام الرهون وغيرها من الإصلاحات التي ساهمت في تغيير صورة النظام المالي إلى حد كبير. مثل هذه الإصلاحات سوف يستمر إدراجها في المستقبل بمساعدة التطورات التقنية الكبيرة التي نشهدها الآن في مجال الاتِّصالات وتقنية المعلومات.
* حديثكم عن التطور في المجال المالي وأثره في التنمية الاقتصادية واستجابته للتغيرات مهم.. فما هي رؤيتكم لتمكين بلد كالمملكة العربية السعودية من تحقيق الريادة في المجال المالي على المستوى الإقليمي؟
- النظام المالي لأي دولة كما أوضحت أساسي في التنمية الاقتصادية، كما أنه أساسي للبنية التحتية لأي دولة تنشد تحقيق قدر مرض من التطور والنمو. وهو مهم بصفة خاصة لأي دولة تنشد تحقيق الريادة في مجال النمو الاقتصادي على المستوى الإقليمي، إِذْ لا يمكن لأي دولة أن تكون رائدة في مجال التنمية ما لم تمتلك أحدث أدوات النظام المالي. فالصين مثلا، وهي الدولة التي يتوقع بلوغها المرتبة الأولى من حيث النمو الاقتصادي في المستقبل القريب، أدخلت إصلاحات جذرية في نظامها المالي لتحقيق هذا الهدف، منها فتح حدودها لتدفقات رؤوس الأموال. ومن هنا اخلص إلى أن المملكة - لكي تكون الدولة الرائدة في مجال التنمية في نطاقها الإقليمي، كما فعلت الصين عندما أرادت أن تكون الدولة الأولى تنمويا على النِّطاق العالمي - يجب عليها أن تبدأ خطواتها في هذا الاتجاه بامتلاك نظام مالي يعمل بكفاءة عالية. ولأن ذلك لا يتسنى تحقيقه إلا بامتلاك أحدث تقنيات هذا النظام المالي فإنَّ الحل القريب الذي تلجأ إليه معظم الدول النامية هو استيراد هذه التقنيات واستقدام الخبراء والاستشاريين. وحيث إن هذا الحل غير مجد على المدى البعيد يجب على المملكة أن تنشئ أدوات سوقها المالي بنفسها، وأن تعمل على تأهيل الكفاءات التي تقود العمل في هذا المجال. هذا لا يعني أن تقوم المملكة بتنفيذ كافة هذه الخطوات في الوقت نفسه، لكنها تستطيع وضع الأسس لذلك على المدى الاستراتيجي، وذلك لأن تحقيق الريادة في المجال التنموي يتطلب الكادر البشري المستوعب للثقافة المحلية والمشهود له بالولاء لوطنه بحكم انتمائه له. ومع إقراري بأن هذه العملية ليست بالسهولة التي نتصورها، لأن تأهيل الكفاءات في كافة مجالات الأداء المالي، مثل السياسات المالية والاستثمار والخدمات المالية وغيرها، لا يتم بين يوم وليلة، فإنني أعتقد أنها ليست مستحيلة أيضاً. ما أود أن أخلص إليه هو القول إن على المملكة، لكي تعد نفسها إعدادا جيدا على المدى البعيد، أن تنجز مهمتين أعتقد أنهما من الأهمية بمكان، أولاهما إنشاء بنية تحتية متينة للنظام المالي للمملكة من أهم ركائزه تأهيل كادر بشري تأهيلا عاليا لكي يتولى مسؤولية إدارة النظام المالي، وثانيهما إنشاء مركز مالي يكون نواة لصناعة المال في المال مثل غيرها من الصناعات.
المشتقات المالية
* بروفيسور ميرتون لن يسمح لي القارئ الذي يعرف خبرتكم وخلفيتكم أن أتجاوز الحديث المعمق حول المشتقات المالية.. بوصفكم أحد أهم الخبراء الذين يدركون الأسباب التي أدت إلى الأزمة المالية التي أصابت النظام المالي العالمي وظهرت بوادرها في عامي 2008 و2009؟ هل لكم أن توضحوا لنا طبيعة الجدل الذي أثير حولها؟
- المشتقات المالية هي ببساطة عقود مالية تستمد قيمتها ومخاطرها من قيمة الأصول محل التعاقد، سواء كانت سلعا أو معدلات فائدة أو أسهما. والهدف من المشتقات المالية هو إدارة المخاطر أو تحويلها من طرف لآخر بموجب عقود. وهي تستخدم بكثرة في الأسواق المالية حاليا، ويعود استخدامها لقرون طويلة خلت، ولا يمكن لأي مؤسسة مالية، بما في ذلك البنوك المركزية، أن تستغني عنها، ولكن يهمني الإشارة هنا إلى أن مصطلح المشتقات المالية مصطلح فضفاض للغاية، ويتم تداوله بكثرة في مختلف المناسبات ونشرات الاخبار والتقارير الصحفية وغيرها بشكل غير دقيق. لذلك يجب علينا حين نحاول تحديد دورها في حدوث الأزمة المالية الأخيرة أن نحدد أولا أي نوع من المشتقات المالية نعني. فقد أدت بعض أنواع المشتقات دورها بكفاءة عالية، بل كان أداؤها أفضل من الأسواق النقدية خلال فترة الأزمة المالية. وبرزت فعاليتها بصفة خاصة في إدارة معدلات الفائدة للبنوك والشركات في أنحاء العالم المختلفة. وتعد مجموعة «سي إم إي» في شيكاغو بالولايات المتحدة كبرى أسواق المشتقات المالية على مستوى العالم. وهي متخصصة في تبادل المشتقات المستقبلية (Future Exchange)، ويتم فيها تبادل أحجام ضخمة من المشتقات التي تغطي مختلف السلع، ابتداء من زيت النخيل وانتهاء بالأسهم. هذا السوق ظل يعمل على مدار الساعة خلال الأزمة المالية، ما يعني أن كبريات أسواق المشتقات المالية ظلت تؤدي مهامها بكفاءة عالية خلال فترة الأزمة. هذا بدوره يعني أن الافتراض القائل إن المشتقات المالية كان لها دور كبير في حدوث الأزمة المالية الأخيرة ينقصه الدقة إلى حد بعيد. ولا يعني هذا أن أداء هذه الأسواق كان يخلو تماما من المشاكل، بل هي عانت الكثير فيما يتعلق بالائتمان، كل أنواع الائتمان، وكذلك الرهون وغيرها، وهناك العديد من العوامل التي أدت إلى حدوث الأزمة المالية، والمشتقات جزء منها، غير أنها لم تكن السبب الأهم. ففي معظم الأحيان كانت المعلومات التي يتلقاها الناس عن الأزمة المالية مشوشة وتنقصها الدقة والتوثيق، ونتج عن ذلك خلط للحقائق وارتباك في استيعاب المفاهيم ذات الصلة لدى الجمهور. لذلك لا بد من تحري الدقة والبحث عن الحقائق عند تناولنا مسببات هذه الأزمة، وألا ننساق وراء الروايات الإخبارية التي تتجاوز الحقائق في الكثير من الأحيان. فالحقائق الماثلة أمامنا تؤكد أن أسواق المشتقات أدت مهامها بكفاءخلال الأزمة، وأن أداءها كان يتابع باستمرار بإدراج الإصلاحات اللازمة كلما تطلب الأمر. هذه المتابعة مهمة جدا لحماية الأسواق في المستقبل، وذلك لأن مواصلة إدخال الإصلاحات تمكن السوق من توزيع المخاطر على العملاء بحيث يؤدي ذلك إلى خفض التكلفة على رأس المال وتحقيق الاستقرار في السوق. ولكن هذا لا يحدث في واقع الأمر، والأمر نفسه ينطبق على العديد من مجالات النظام المالي، بما في ذلك التعليم والتدريب. أخلص من ذلك إلى أن المشتقات المالية عقود مالية، مثل عقود المستقبل وعقود الخيارات وغيرها. وهي أدوات مالية تستمد قيمتها من أداء أصل حقيقي، مثل الذهب والنفط وغيرهما، أو مالي، مثل الأسهم والسندات وغيرهما. وتستخدم المشتقات المالية في إدارة أو تحويل المخاطر كما أشرت، ولا يدخل في التعامل بها أي استثمار نقدي، غير أن استخدام مصطلح «المشتقات المالية» هنا يدل على أن القصد ربما يعني الأدوات المشتقة التي لديها أصول وينطوي استثمارها على تعامل نقدي، مثلها في ذلك مثل أي مؤسسة تجارية لديها أسهم وسندات وضمانات وغيرها مقابل نفس الأصول. وهذا التعريف يستخدم لأغراض التوضيح فقط، غير أنه ليس دقيقا، وذلك لأن التعريف الصحيح للمشتقات المالية يؤكد على أنها تستخدم لإدارة وتحويل المخاطر، دون أن ينطوي استخدامها على استثمار نقدي.
* بروفيسور ميرتون.. المشتقات المالية كما تعلمون نشأت بوصفها آلية للتحوط وليس كفئة أصول، وقد تطورت بشكل كبير اليوم إلى أن تسببت بالأزمة المالية العالمية في عام 2008 بنظر كثير من المراقبين، فيكف ترون إمكانية استعادة مكانتها في السوق المالي بعد كل ما حدث؟
- من المهم القول إن أزمة عام 2008 كانت من التعقيد بحيث لا يمكن حصر أسبابها على هذا النحو، ولكن يمكننا القول إن ضعف الاستشارات القانونية بهذا الشأن، مضافا إليه ضعف الإشراف على الائتمان بصفة عامة، وعلى مخرجات هيكلة الديون بصفة خاصة، كانا من أهم أسباب الأزمة. فالمشكلة لم تكن محصورة في جانب الأصول بقدر ما كانت مرتبطة بعدم فهم ماهية الأصول والفوضى التي اكتنفت ممارسات إدارة المخاطر. فالمشتقات المالية تعرف بأنها آليات للسيطرة على المخاطر، ولها أهمية بالغة في تشغيل أي مؤسسة مالية. فالتجارة الدولية في مجال النفط، على سبيل المثال، هي العمود الفقري للاقتصاد السعودي، وبدون المشتقات المالية لا يمكن ممارسة هذا النشاط التجاري. والعديد من المشتقات، مثل معدلات الفائدة على نظام التبادل، أدت دورها دون تجاوزات تذكر خلال فترة الأزمة، بالإضافة إلى أن أداء أسواق المشتقات أسهم بفاعلية في جهود احتواء الأزمة والتعافي من آثارها.
وفي الواقع تطورت المشتقات كثيرا منذ دخولها السوق المالية في شكلها الحديث قبل أربعين عاما تقريبا، وارتقى وضعها في سوق المال إلى مستوى أهمية استخدام الحاسوب. ونظرا لأن عالم المال يتجه إلى المزيد من التعقيد يوما بعد يوم فإنَّ ما نحتاج إليه الآن لتقليل المخاطر في المستقبل هو التعليم المتطور والتدريب. هذا ما يجعل برنامجا مثل برنامج ماجستير الاقتصاد الذي يمنحه معهد ماساشيوستس للتكنولوجيا من الأهمية بمكان. فباستقدام النابهين من الطلاب من مختلف أنحاء العالم يسهم المعهد بدور مهم في فهم تعقيدات الأسواق المالية في عالم اليوم وإعداد القيادات في مجال المال للمستقبل في كل من القطاعين العام والخاص.
*... هل أكون مخطئا إذا قلت إن السبب الأساسي وراء الاستغلال السيئ لأسواق المشتقات هو الكم الهائل من السيولة التي تبحث عن العائدات في السوق؟ بالإضافة إلى التوجه التنافسي من مختلف الدول نحو طباعة النقود وهو ما أدَّى إلى المخاطر التي تعاني منها أسواق المشتقات اليوم؟
- أخالفك في هذا الافتراض. فالهدف من وجود الأسواق المالية هو توزيع المخاطر على الأشخاص الذين لديهم القدرة اللازمة على امتلاكها والرغبة في ذلك. والمشتقات، كما أوضحنا آنفا، آليات مهمة في إدارة المخاطر والسيطرة عليها، إِذْ ليس هناك سلع «جيدة» في حد ذاتها وأخرى «سيئة»، بل هي ببساطة تنطوي على معدلات مخاطر متفاوتة. والمتعاملون في السوق يهمهم أن تكون معدلات المخاطر متناسبة مع العائدات التي يتوقعونها، وهي عائدات متفاوتة من وقت لآخر.
فعلى سبيل المثال، لم يعد ممكنا الآن تحقيق عائدات قدرها 5% على الديون الحكومية المضمونة، لذا يجب على المستثمر الذي يستهدف تحقيق عائدات بهذه النسبة قبول معدل مخاطر أعلى. وبنفس التعليل يجب على المستثمر الذي يستهدف تحقيق عائدات بنسبة 14 بالمئة مثلا قبول المزيد من المخاطر. وهذا ما يقودني على التأكيد أن التعليم يؤدي دورا أساسيا في إدارة كفاءة المخاطر المالية بفاعلية، وبالتالي تقليل المخاطر بصفة عامة في الأسواق المالية. فعندما يدخل المستثمرون في اتفاقيات دون أن يكون لديهم إلمام جيد بمواد الاتفاقيات، أو دون إجراء بحوث متعمقة حول مواد الاتفاقيات، فإنهم يعرضون أنفسهم إلى مخاطر أكبر مما يمكنهم تحمله. وعندما تفشل المؤسسات المالية في توفير الآليات الأساسية لمراقبة أداء السوق، أو تزويد المتعاملين في السوق بأدوات الضبط والتوازن المناسبة، فإنها في هذه الحالة تفتح الباب واسعا للفشل. وبتخريج مجموعات جديدة من الكفاءات ذات المستوى الرفيع، الذين يتحدثون لغة واحدة، ويميزهم تزودهم بمعايير معرفة عالية، يخطو معهد ماساشيوستس للتكنولوجيا خطوة ضرورية نحو تحقيق الاستقرار للنظام المالي العالمي.
* من وجهة نظركم بروفيسور ميرتون... كيف يمكن التحكم في الاستغلال السيئ لنواتج المشتقات المالية، خصوصاً التزوير عندما يفلت المصرفيون من العقاب رغم انفجار المؤسسة المالية التي يمثلونها؟
- أنت تسأل عن شيئين: الخسائر الناجمة عن الإدارة غير السليمة للمخاطر والخسائر الناجمة عن التزوير المتعمد. فالتزوير ليس خطأ ناتجا عن آليات سوق المال بقدر ما هو خطأ يتسبب فيه الأفراد. والتفريق بينهما يقتضي أن نقول إن تطبيق العقوبات المناسبة على أولئك الباحثين عن الثراء عن طريق التزوير، سواء لأنفسهم أو للمؤسسات التي ينتمون إليها، ليس مهمة الأكاديميين، بل هو مهمة المشرعين والمنظمين. أما الخسائر الناجمة عن الإدارة غير السليمة للمخاطر فهي الخسائر التي يتسبب فيها ضعف الرقابة أو ضعف التعليم، ولا يمكن مواجهتها إلا بتزويد مسؤولي سوق المال بالتعليم الجيد وتطوير الرقابة والإدارة عن طريق المؤسسات.
* من الانتقادات الموجهة لأسواق المشتقات المالية أنك إذا ما بحثت فيها عن السيولة فإنك لن تجدها، كيف يمكن التخفيف من آثار هذه المخاطرة؟
- دعني أوضح أولا انه لا يجب الافتراض بأن كافة المشتقات متشابهة، ذلك لأن بعض فئات المشتقات أكثر سيولة من غيرها، وبعضها قد تكون عديمة السيولة، اعتمادا على عدد من العوامل من أهمها عامل الزمن. فإنَّ أردت السيولة، على سبيل المثال، فيجب عليك اختيار المشتقات ذات الفترات الزمنية القصيرة، وإن أردت الاستقرار على المدى البعيد يجب عليك اختيار المشتقات ذات السيولة الأقل. ولكن الخطأ يحدث عندما يحاول البعض إيجاد وضع يصعب تحقيقه في الواقع، إِذْ لا يمكنك الحصول على السيولة العالية وفترة الاستقرار الطويل في مشتق واحد. ويقع على عاتق المسؤولين الماليين ذوي التأهيل العلمي العالي مهمة موازنة المخاطر بحيث يمكنهم تأمين السيولة المطلوبة مع الاحتفاظ بقدرتهم على تحقيق استقرار العائدات التي يبتغونها.
* من وجهة نظركم بروفيسور ميرتون... هل بإمكان الذهب أداء أي دور في تخفيف مخاطر المشتقات المالية؟
- اقتناء الذهب ينطوي في حد ذاته على مخاطر عالية. فبصرف النظر عن التكلفة الإضافية لتخزين وحماية الذهب نلاحظ أن الأسعار العالمية للذهب لا تستقر أبدا على حال. ففي السنوات الخمس الماضية شهدت أسواق الذهب تقلبات كبيرة، كما أنها ظلت تتهاوى باستمرار منذ سبتمبر 2012. ومنذ عام 2003م بدأت تجارة الذهب تتجه نحو شكل أطلق عليه اسم «صناديق الاستثمار المتداولة» أو «الذهب الإلكتروني»، وهي في حد ذاتها مشتقات مالية. لذا يمكن إعادة صياغة سؤالك على النحو التالي: «هل يمكن استخدام نوع من المشتقات المالية لتخفيف المخاطر في نوع آخر من المشتقات؟»، والإجابة عن هذا السؤال هي أن ذلك ممكن بالطبع. فالمشتقات وجدت لإدارة المخاطر وتجزئتها، وعليه يمكن استخدام المشتقات الأكثر استقرارا في إعاقة حركة المشتقات الأقل استقرارا. وفي هذا الإطار فإنَّ الذهب ليس له أي ميزة تذكر على السلع الأخرى.
السياسات المالية
* بروفيسور ميرتون، حديثكم حول المشتقات المالية يدفعني للتساؤل عن السياسات المالية التي ينبغي اتخاذها في رأيكم لتحقيق الاستقرار في سوق المال؟
- أنا لست خبيرا في السياسات المالية، لكن ما أود توضيحه هنا هو أن الأسواق المالية تعمل بطريقة طبيعية، وأعني بذلك أنه لا توجد أي مؤسسة مالية، مهما كان حجمها، بما في ذلك البنوك المركزية، قادرة على السيطرة على الأسواق المالية. فالأسواق المالية الآن بدأت تتوجه نحو العولمة، ولم يعد للأسواق المالية المحلية وجود يذكر. ولأن هذه الأسواق تعمل بطريقة طبيعية كما أسلفنا فهي أحيانا توفر فرصا جيدة للاستثمار، وأحيانا أخرى تكون البيئة الاستثمارية فيها من السوء إلى الدرجة التي تجعلها غير مهيأة للاستثمار. لذا يجب على المستثمر في أي سوق مالي أن يقنع بما تجود به السوق حسب تبدل الظروف. أنا مثلا ظللت أحلم كثيرا أن تتيح السوق الأمريكية نسبة خلو من المخاطر قدرها 12 بالمئة، غير أنها في الواقع لا تسمح بذلك، كما أنني غير قادر على تغيير هذا الوضع. ما أود الإشارة إليه هو أننا ينبغي أن نتحلى بالتفكير العقلاني عندما نتجه للاستثمار في أي سوق مالي، وهذا التفكير العقلاني يؤكد أنه لا قدرة لأحد على السيطرة على الأسواق المالية، كما لا قدرة لأحد على التحكم في الفرص الاستثمارية، وأن معدلات الفائدة مجرد أسعار عرضة للتقلبات مثلها في ذلك مثل أي سعر، وأن تعرض الفرص الاستثمارية للتغيير لا يعني أن الوضع غريب أو أن هناك خطأ ما في السوق. والتفكير الخاطئ في مثل هذه الحالات هو محاولة استبقاء أوضاع لا يمكن أن تدوم على حال. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، كانت البنوك تعطي معدلات فائدة تتراوح بين 4 و5 بالمئة، لكنها الآن لا تعطي سوى 0.1 بالمئة. وقد يثير هذا الكثير من الجدل حول الأسباب التي أدت لذلك، غير أن الحقيقة الماثلة تؤكد أن الأسعار المتاحة في السوق هي الأسعار السائدة، رضينا بذلك أم أبينا، وأن مثل هذا الوضع لا يعني أن هناك خطأ ما في السوق. ومن أوضح الأمثلة على ذلك أسعار النفط، فهي متقلبة باستمرار، ولذلك فإنَّ طموحات الدول في الأسعار تتفاوت من دولة إلى دولة حسب وضعها في السوق. فإن كانت بائعة طمحت إلى الأسعار الأعلى بالطبع وإن كانت مشترية طمحت إلى الأسعار الأدنى، ولكن في نهاية المطاف يسود ما يفرضه السوق من أسعار.