في منتصف الستينيات من هذا القرن.. لاحظ التربويون الغربيون أن الطلاب يكتسبون سلوكيات إيجابية وأخرى سلبية لم يستهدفها المنهج المدرسي الرسمي.. الأمر الذي دعاهم بإلحاح شديد إلى دراسة هذه الملاحظة المهمة كونها ترتبط بأجيال النشء وبما يتلقونه من قيم ومثل ومرتكزات.. فتوالت الأبحاث والدراسات الميدانية.. وخلصت تلك الجهود البحثية إلى أن تلك السلوكيات هي نتاج «منهج خفي» أو «ضمني» مصدره العلاقة التي تربط المعلم بتلاميذه وما ينشأ عنها من بث لقيم ومثل وتعاليم وأفكار ومعتقدات لا يتضمنها المنهج التعليمي المعلن أو الرسمي..
شكَّل هذا المنهج مساراً بحثياً جديداً في الحقل التربوي.. ويعود الفضل لاكتشافه والتنبه له وتسليط الضوء عليه للباحث فيليب جاكسون في عام 1968م.. ورغم الاختلاف بين الباحثين الذين تبعوا جاكسون على تسميته (الخفي - الضمني - المستتر - المغطى - غير النظامي...) إلا أن هناك شبه إجماع على وجوده وأثره القوي في غرس القيم المرغوب فيها كالصدق والأمانة والتعاون والإيثار لدى الطلاب.. وذلك من خلال دور المعلم والعلاقة القوية التي تربطه بتلاميذه لينتج عن ذلك تفعيل إيجابي للمنهج الخفي وبالتالي يعمل متمماً ومكملاً للمنهج المدرسي الرسمي (الموجه).. من هنا.. أوصى الباحثون التربويون بضرورة تفعيله واستثماره في حماية فكر الطلاب وغرس القيم الإيجابية لديهم.
أما على الصعيد العربي فتحدث العديد من التربويين العرب عن طبيعة هذا المنهج.. من حيث آثاره على الطالب سلباً وإيجاباً.. وبحثوا أهميته وضرورة استثماره فيما يحصّن فكر التلاميذ ويكسبهم القيم الدينية والاجتماعية والأخلاقية الحميدة.. وقد جاء ذلك في ندوة علمية أقيمت في أبها عام 1424هـ بعنوان: (المنهج الخفي والمنهج المعلن).. ولا تزال مناقشات ومداولات تلك الندوة المهمة حاضرة في أذهان الكثير من المهتمين بالجوانب التربوية والفكرية والأيديولوجية حول طبيعة هذا المنهج الخفي «المستتر» ومدى تأثيره على الطلاب وتأثرهم به.. مروراً بدور المعلم في العملية التربوية بوصفه الركيزة الأساس في تطبيق المنهج المعلن الذي عادة ما يكون تفعيله وملاحظته ومتابعته وقياس أهدافه أمراً سهلاً من قبل الإدارة المدرسية ومراكز الإشراف التربوي وإدارات التربية والتعليم وانتهاء بالوزارة.. إلا أن ذلك كله لا ينطبق على المنهج الخفي، وهذا ما يجعله مكمناً للخطر.
وفي هذا المسار يأتي وجه الشبه ونقاط الالتقاء فيما بين تنظيم جماعة الإخوان (المستتر والمتستر) بطبيعته.. وبين المنهج الخفي في الجسد التربوي والتعليمي.. وهو في تقديري المشترك الأهم والأخطر فيما بينهما (جماعة الإخوان والمنهج الخفي) من حيث سمة التخفّي والاستتار، وبالتالي بث الغايات والمخططات ودسّها تحت جنح الضمنيات خدمة لأهداف تنظيمية اختطافية لا تخفى على الجميع بعد أن انكشف الغطاء وبانت الحقائق والسرائر!
يلحظ أن جماعة الإخوان بطبيعة منهجها «المستتر» بحلة الدين.. وجدت في المنهج الخفي ضالتها.. فطبيعة المنهج الخفي و «ضمنيته» وتأخر تحقق نتائجه وسهولة تغيير مساراته إضافة إلى سمات عديدة أخرى.. تسهم في جعله بيئة خصبة لاحتضان أفكار التنظيم وتمريرها بصورة تدريجية وغير ملحوظة إلى عقول التلاميذ.. بدلاً من غرس القيم الدينية والوطنية والاجتماعية السليمة والإيجابية النبيلة.. التي كان ينبغي للمنهج الخفي غرسها كما أُريد له من حيث المبدأ.. ومن أبرز مظاهر اختطاف المنهج الخفي من قبل «الإخوان» تسللهم بغطاء ديني يعتمد الجوانب الشرعية ليدغدغ المشاعر ويستميل العقول.. فلا غرابة أن نجد تعليم العلوم الشرعية لم يعد مقتصراً على المتخصصين.. بل أصبح بعض المعلمين بمختلف تخصصاتهم يعلِّمون الدين ومسائل العقيدة وفق أجندة مدروسة وبطريقة تخدم أيديولوجيا فكرية منظمة اسمها جماعة «الإخوان المسلمون»..
بلا شك أن من أوائل من نادى بدراسة هذا المنهج والتنبيه من ويلاته.. هو صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل - وزير التربية والتعليم عندما كان أميراً لمنطقة عسير، حيث رعى سموه ندوة (المنهج الخفي والمنهج المعلن).. وقد تضمنت كلمة سموه جوانب وتبعات وآثار المنهج الخفي في تعليمنا العام.. وهنا نماذج منها وفق ما نشرته صحيفة الشرق الأوسط (7 يوليو 2004 العدد 9353): «آن لنا أن ننتبه من الغفوة وأن يتم محاسبة الذين لا يبثون ثقافة البناء في أشرطتهم وكتيباتهم».. «انتهى وقت الغفلة، وقرار المواجهة مع الإرهاب ليس مقصوراً على القنابل البشرية التي تنفذ التفجيرات وأعمال التخريب، بل على الغطاء الفكري والنظري لهم.. وهذه هي المعركة التي ستستغرق عشرات السنين ولن نتوقف عنها أبداً».
اليوم وبعد مضي أكثر من 10 سنوات على تلك الندوة الخالدة.. وما دار فيها من آراء وتطلعات لاجتثاث سلبية ذلك المنهج.. تظهر الحاجة إلى أن نقف ونستعرض الأحداث السياسية التي حصلت في العقد الأخير وما أفرزته من تغيرات فكرية أتت نتاجاً لنشاطات تلك الجماعة.. وأن نتأمل ملياً، ليس في أثرها على عقول الناشئة فحسب، بل أيضاً في كيفية تخليص وتحرير تلك العقول البريئة مما علق بها من رواسب فكر تلك الجماعة.. حان الوقت أن يعلم أبناؤنا أن مخططات «جماعة الإخوان» ووعودهم الكبيرة في مصر وتونس تضاءلت وتوارت خلف إصرار ووطنية شعوب تلك البلدان بعد أن اتضحت غاياتهم السياسية الهشة ومطامعهم السلطوية بعيداً عن شعارات التنمية ووعود البناء.. والأمل هنا يتعاظم حين نستحضر أن عقلاً حياً كبيراً بحجم وطن اسمه (خالد الفيصل) هو من تنبه قبل نحو عشر سنوات لهذا الاتجاه الخطير.. معلناً عبر الندوة المشار إليها أعلاه خطر التخفي الذي هو في حقيقة الأمر ليس إلا منهجاً تتبعه خفافيش الظلام لبث سمومها المرفوضة التي ستحرقها شمس الصدق والوضوح إن هي خرجت إلى وضح النهار.. أقول يتطلع الوطن وأجيال الوطن إلى مرحلة وطنية تربوية تعليمية جديدة خالية من تلك التخفيات والتضمينات المغرضة التي تعمل ليس ضد الوطن فحسب، بل لاختطافه من أرواح أجياله وأبنائه وبناته.
نحن في حقيقة الأمر نرتقب صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل.. هذا الرجل الذي استشعر حضارة بأكملها حين أسس مؤسسة الفكر العربي التي باتت واحدة من أهم الواجهات الحضارية والثقافية والفكرية العريقة على امتداد أقطار الوطن العربي في مقابل الحضارات الكونية الأخرى.. وسموه أيضاً هو من أعاد تاريخ حقبة عريقة تراثاً وأدباً وثقافة وشعراً حين أحيا مهرجان سوق عكاظ.. ناهيك عن ما يزخر به سجله الممتد على مختلف المستويات التنموية والثقافية والمعرفية والوطنية.. مؤكدين في ذات السياق على ثقتنا الوطنية العميقة في أبناء وطننا المخلصين الأوفياء من معلمين وتربويين ومشرفين ومسؤولين عن حقل التربية والتعليم.. دون أن يأخذنا الشك في وطنيتهم وولائهم وانتمائهم لوطننا الغالي للحظة واحدة.. لكننا في ذات السياق نطرح سؤال «التخفي والاستتار» الذي هو كما أسلفنا منهج جماعة الإخوان عبر المنهج الخفي على النحو الذي طرحته تلك الندوة الخالدة المشار إليها سلفاً.. يحدونا نحو ذلك وطننا الحبيب أولاً وثانياً وثالثاً ولا غير سواه.
إن من واجبنا جميعا؛ آباءً وأكاديميين وأئمة مساجد ومثقفين وإعلاميين وصنّاع قرار ومفكرين وتربويين ومسؤولين ومواطنين أن نقف صفاً واحداً في مواجهة هذه التكوينات الإرهابية الإخوانية المضللة.. وذلك من خلال خطة وطنية شاملة تضم المؤسسات الدينية ومؤسسات الإعلام الحكومية والخاصة، لا سيما مؤسسات التعليم العام والعالي والتي تُعد الأهم في صناعة الفكر وتشكيل الثقافة.. وفي هذا السياق تبرز قامات وطنية شامخة - أفراداً ومؤسسات - تصدّت بصدق وإخلاص لتلك اللوثة التي استهدفت أجيال وطننا الغالي تطرفاً وغلواً و»أخونة».. وأبرزها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بقيادة ربانها المخلص أ.د. سليمان بن عبد الله أبا الخيل.. من حيث تبني رؤية إستراتيجية شاملة تقوم على تعرية الفكر الضال وأتباعه وفضح مخططاتهم من خلال الأساليب العلمية والأكاديمية والمشاريع المجتمعية.
إن حماية أثمن مقدراتنا الوطنية على الإطلاق وهي وحدتنا واستقرار وطننا ولحُمتنا الوطنية الفريدة قيادة وشعباً.. هي واجب ديني ووطني ومستقبلي متحتم على الجميع دون استثناء.. بل إن معادن الوطنيين الأوفياء لتظهر في صورتها الجلية الواضحة الآن وفي مثل هذه الظروف التي يحاول أصحاب الولاءات المتعددة أن يتواروا فيها عن الأنظار.. وأن من أقل الواجبات المتعينة علينا تجاه وطننا ومستقبل أجيالنا أن نحذر من خطر تلك التكوينات الغادرة ونحاربها ونمقتها ونفضحها.. في الحين الذي قامت المؤسسة الأمنية الوطنية بمختلف أنواعها بواجبها في هذا الإطار على أكمل وأتم وجه.. وهو ما يُذكر ويُشكر على الدوام وعلى مختلف المستويات.. أدعو الله عز وجلّ أن يحفظ أمن وطننا وأمانه وقادته.. وأن يديم استقراره ورخاءه وأن يرد كيد أعدائه في نحورهم.