الثَّنِيَّة في الأصل كلُّ عقبة في الجبل مسلوكة، واشتهرت بعض الثنايا في المدينة المنورة، منها ثنية الوداع وهي اسمٌ من التوديع، وهي ثنيةٌ مشرفةٌ على المدينة، تقع شمال المدينة في أول الطريق المحاذي لجبل سلع من الشرق، وقد جاء ذكر ثنية الوداع في الحديث الشريف، فعن عبد الله بن عمر قال: أجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ضُمر من الخيل من الحفياء إلى ثنية الوداع، وأجرى ما لم يضمّر من الثنية إلى مسجد بني زريق قال ابن عمر: وكنتُ فيمن أجرى. وقد اشتهر الموقع بمسجد السبق، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يتركون المدينة على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العوافي - يريد عوافي السباعِ والطير - فآخر من يُحشر: راعيان من مزينة، يريدان المدينة، ينعقان بغنمهما، فيجدانها وحوشاً، حتى إذا بلغا ثنية الوداع، خرّا على وجوههما). متفق عليه.
واختلف في تسميتها بذلك فقيل: لأنها موضع وداع المسافرين من المدينة إلى مكة (سابقاً)، لأنها الطريق الوحيد إلى المدينة إذا ما استثني طريق المدرج الذي يخترق حرة الوبرة (الشرقية) إلى العقيق، وقيل: في تسميتها أيضاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع بها بعض من خلفه بالمدينة، قال العباسي: والصحيح أنه اسم قديم جاهلي سمي لتوديع المسافرين، وقيل: كان اسمها الجاهلي ثنية الرِّكاب ثم تغير اسمها فأصبحت ثنية الوداع. قال أحد المؤرخين: ثنية الوداع معروفة خارج باب الشامي وهي ما بين مسجد الراية الذي على جبل ذباب ومشهد النفس الزكية أي مسجد الزكي. وقد تابع الكاتب تحديد موقع ثنيات الوداع حيث انها أي: ثنيات الوداع هي مدخل المدينة من الشمال وعلى ذلك شبه إجماع والواقع الميداني يثبت أنها عدة ثنيّات وكلها شرق جبل سلع، فالثنية الأولى يشكّلها جبل صغير (القرين الفوقاني) مع جبل سلع، كان عليه مسجد وأزيل ذلك الجبل مع المسجد، وكان موقعه عند مدخل نفق المناخة من الشمال، والثنية الثانية تقع وراءها ويشكلها جبل الراية (القرين التحتاني) وعليه مسجد الراية، حيث يقترب من جبل سلع من الشرق وكان يشكل ثنية أخرى قبل اتساع الطريق، أما جنوب المدينة فلا ثنية هناك نهائيًّا حسب الواقع الفعلي وحسب ما ذكر المؤرخون، ودخول المدينة كان من الشمال دائمًا لأن كل الجهات الأخرى تغطيها الحرار، لذلك كان الخندق من الشمال. وهناك مدخل في الحرة الغربية (حرة الوبرة) يسمى المدرّج وينزل على الوادي المبارك.
وقد ربط بعض المؤرخين النشيد المشهور (طلع البدر علينا) بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يثرب مهاجراً، وهذا غير صحيح، يقول ابن القيم رحمه الله: «وبعض الرواة وهم في هذا ويقول: إنما كان ذلك عند مقدمه المدينة من مكة، وهو وهمٌ ظاهر، لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراهما القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام. وحسب الواقع الفعلي الميداني لا توجد أي ثنية جنوب قباء. كما روى البخاري عن السائب بن يزيد قال: «أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك». ويظهر من هذا أن النشيد المشهور قيل في رجوعه من غزوة تبوك، يقول السمهودي رحمه الله: (وكل هذه الروايات متظاهرة على أن هذه الثنية هي المعروفة بذلك اليوم في شامي المدينة (أي شمالها) بين مسجد الراية الذي على ذباب، ومشهد النفس الزكية، يمر فيها المار بين مرتفعين في الجنوب الشرقي لـ: (جبل سلع) وكل الجبيلات التي تشكل ثنايا تتصل به. وإذا صحّ ما ورد في النشيد المذكور فإنه قيل فعلاً في رجوعه من غزوة تبوك.
وأخيراً فإن كلمات النشيد مناسبة لمقدمه المبارك صلى الله عليه وسلم وسهلة الحفظ ومناسبة لكل الطبقات ولا مانع من تكرارها من قبل الطلاب والطالبات إلا أن ربطها بيوم الهجرة وأنها قيلت في ذلك اليوم فغير دقيق، علماً بأنها قد نقدت من حيث كلماتها - أي: كلمات طلع البدر علينا - وأنها لا تتناسب مع قوة اللغة العربية زمن هجرته صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى ذلك أنه قد ورد أن المسلمين عندما سمع بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، كانوا يغدون كل غداة إلى الحَرَّة، فينتظرونه حتى يردهم حرّ الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما آووا إلى بيوتهم صعد رجل من يهود على أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبَيَّضِين يزول بهم السراب، (ومبيِّضين أي: عليهم ثياب بيض حيث قابلهم في الطريق الزبير بن العوام وهو قادمٌ من الشام فأهداهم هذه الثياب)، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدّكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، وتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة وهي مدخل العصبة، وأول جلوس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صحبه كانت تحت ظلال نخيل العصبة، فهذه الرواية تثبت أيضاً أن استقباله صلى الله عليه وسلم من قبل الأوس والخزرج وبقية المسلمين لم يكن بالنشيد المتداول، ولم تكن هناك مجموعات تلقي هذا النشيد، سواءً من المنازل أو غيرها. بل إنه جلس تحت ظلال النخيل وأحاطوا به ولم يكن يفرقون بينه وبين أبي بكر رضي الله عنه، حتى قام أبو بكر يظلله (يمنع عنه حرارة الشمس). ولم تكن هناك ثنيات في طريقهم عند دخولهم إلى القباء (العصبة).