أتابع ما تطرحه صحيفة (الجزيرة) وغيرها وماينبض به الميدان التربوي من أحاديث ورؤى حول واقع المدارس والطلاب ولعلي أجدها فرصة لأكتب عن مسار أجده مرتكزا هاما ينبغي الاهتمام به وهو ما يتعلق بإعادة الاختبارات المركزية (تأتي الأسئلة عن طريق الوزارة) لنيل شهادة الثانوية وأكتب مستعينا بالله:
كان أبناؤنا في المدارس يعيشون في ختام مرحلتهم الثانوية فصلا دراسيا حافلا بالجد والمثابرة، والإقبال على المذاكرة، والإصغاء للمعلمين لاستيعاب ما يلقى عليهم من محتويات مقرراتهم. وكان المتميزون منهم يحضرون للمدرسة حتى آخر يوم من الفصل الدراسي حرصا على الاستفادة من معلميهم ومن بعضهم.
وقد كان مدير المدرسة هناك يحمل همّا لهذا الفصل الدراسي فيختار له المعلمين المتميزين الجادين والمناسبين لاحتياجات الطلاب والمقررات الدراسية.
كل ذلك كان لسبب واحد وهو أن أسئلة اختبار ذاك الفصل كانت مركزية تأتي من قبل الوزارة، فكانت شاملة للمقرر، وتقيس جميع أهدافه بمختلف المستويات العقلية. فكان الجميع مستعداً لهذه اللحظة الفاصلة التي يقطف بها الطلاب ثمرات الجد وتتضح للمعلمين جدوى تلك الجهود. فكان كل هذا الفصل الدراسي فترة عامرة بالحيوية، والنشاط، والتنافس، والترقب، والأمل.
ولما ألغي هذا القرار قبل سنوات تغيرت الأحوال وافتقدنا هذه الفترة المتميزة التي يتعود فيها أبناؤنا التطبيق العملي لتحمل المسؤولية والاعتماد على النفس بعد الله، والاستفادة من الوقت واستغلال كل لحظاته بالمفيد، وكم هم بحاجة لهذا النوع من التربية ليستفيدوا منها طوال حياتهم لاكتساب كل ما ينفعهم.
فلما أصبحت الأسئلة من الميدان نفسه رأينا العجائب في التعامل مع المقررات من الحذف والاختصار المخل، ورأينا الأسئلة السطحية التي لا تحتاج إلى مزيد من التفكير والجهد . ومن شك في هذا فلينظر إلى محلات التصوير وكيف تحولت مقررات الوزارة الحافلة بالعلوم والمعارف إلى وريقات معدودات يختمها الطالب في ربع ساعة.
إن هذا الوضع السائد قد أفقد المعلم الجاد قيمته بل أصبح غير محبوب لدى الكثير من الطلاب فهو حينما يعطي كل ذي حق حقه، ويضع الأسئلة التي تضع كل طالب في مكانه حسب جهده سيفقد الكثيرون ما يحصلون عليه عند غيره من الدرجات التي لا يبذل فيها جهد، فيرونه المعلم المتسلط ويرون غيره مشفقاً مما يقطع حبل المودة معه وسينقطع مع ذلك استفادتهم مما يقدمه لهم لأن المودة هي أعلى وسيلة لإيصال الرسالة.
كما أن هذا الوضع فيه تهجين للطالب المتميز حين يفقد مكانته اللائقة به والتي تتناسب مع كدّه وبذله فسيرى نهاية العام أن الكسالى قد اصطفوا معه دون أدنى جهد، مما يجعله يتراخى مع نفسه ليتنازل عن تلك الجهود لعدم جدواها. خصوصاً وأن الطالب في هذا السن ينظر للمعلومة على أنها وسيلة للنجاح والتفوق لا أنها هي بحد ذاتها غاية منشودة، فهو يتنازل عنها إذا كان سيحصل على التفوق المزعوم بغيرها.
وإن هذا الوضع سيلقن الطلاب درساً في الحياة وأن المعالي يمكن الوصول إليها بلا مشقة وأن التفوق أمره سهل فإذا ما تقشعت الأمور ووقف وحده واصطدم بالواقع بعد أن فات الأوان ندم حين لا ينفع الندم:
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها
تنال إلا على جسر من التعب
وقد أظهرت اختبارات التحصيل والقدرات أن درجات تحصيل الطلاب في المدارس لا تتناسب مع درجات التحصيل المحايدة (مركز قياس) وكانت الفجوة بينهما كبيرة ولافتة. كما أظهرت تلك الاختبارات أن هناك طاقات معطلة وأن أبناءنا لا ينقصهم الذكاء فدرجاتهم في القدرات متقدمة على درجاتهم في التحصيل.
إن الاختبارات الأمينة الصادقة هي الميزان الحقيقي الذي تحفظ به الحقوق وتظهر فيه آثار التنافس للمعلم والطالب.
فالمعلم المتميز الجاد سيزداد حماساً إذا رأى جهده بادياً في تقدم طلابه على غيرهم، وسيعيش نشوةً إذا رآهم يقطفون ثمار جهودهم بعدما نسوا تعبهم.
وسيدرك المعلم المتكاسل مواطن الخلل لديه من نتائج طلابه ومشاعرهم تجاهه بعد أن ترك لهم الحبل على الغارب، فيسارع لتدارك ما قصر فيه ببذل المزيد من الجهد في مستقبل أيامه.
ولما لمسناه من الوزارة الموقرة من تحرك وسعي حثيث لتطوير عمليات التقويم، ومن تلمس لحاجات الميدان، فإنا نلتمس منها إعادة النظر في أمر في وضع الاختبارات إذ هي (المراقب المحفز)، وسواء كان من الوزارة أو من الإدارات التعليمية. وسواء كان لكل المواد أو لمواد عشوائية لمختلف المراحل ليحرك الميدان كله سعياً فيما يرفع من مستوى الأداء للمعلم والتحصيل للطالب فهما الغاية التي تبذل لها كل الجهود. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.