في الموعد الأخير للقطار والساعة كانت تقارب الثانية عشرة ليلاً... العمال ينظفون القطار (هكذا كان الحال في الثمانينيات) وإذ بشخص نائم فوق أحد الكراسي. أيقظوه وألقو به خارج المحطة، فأكمل نومه بجوارها حتى الصباح... انطلقت الأبواق والأصوات محذرة وصل إلى ميدان المسلة.
لاحظ حالته الرثة أحد العاملين بمطعم (غنيم). أعطاه خبزاً وبعض الغموس، أكل بنهم، واستمر بالميدان حتى العصر، وبما أن الميدان يطل على مبنى المحافظة، فقد أتى أحدهم وطرده.. اتجه شرقاً حتى وجد مستقراً له في حديقة فريال فى مكانها الذى يتوسط مجموعة من العمارات أوربية الطرز. عمارات متناسقة احتضت الحديقة ومعها بديع..
اسمه بديع.. رقت القلوب لحاله، فطاب له المقام بها، وصنع بيته بها من بضعة بلاطات انتزعها من ممرات الحديقة غطاها بقطع من الكرتون... اعتاد الناس على وجوده حتى أن بعض النسوة كُن يستخدمنه لشراء طلبات من السوق ولأغراض أخرى.
عشق لعب كرة (الجُلة) وكان يشارك الشباب حين كانوا يلعبون على رصيف الحديقة الواسع.. معه ضحكاتهم تتعالى فبديع يلعب مثلهم لعباً طفولياً.... يتركهم ويستريح بجواري يأخذ حفنة من اللب أو الفول ويجلس فوق الأرض مقزقزاً... من شباكها الموازي للأرض كانت تعطيه أم عبده بعضاً من الطعام، وكان يطلب المزيد فلا تبخل عليه، تعطيه ما تعطيه وتتبعه بالشاي.
لا يعلم أحد اسمه. أنا أول من ناداه بهذا الاسم لبراعته في الرسم، فقد كنت ألاحظه حين يرسم بعصا صغيرة على التراب... كان بارعاً في رسم الوجوه، ما بين نساء ورجال وأطفال كان يرسم. لاحظت أن بين هذه الوجوه جميعا تشابهاً ما.
أحضرت له دفتراً وألواناً..لكنه لم يستخدم غير اللون الأسود.. يلتف حوله الأطفال والكبار يتابعونه في صمت واندهاش.. تلك هي اللحظات الوحيدة التي كانت ترتسم على وجهه أثناءهاعلامات الجدية والحزن. عدا ذلك كانت ضحكته تحمل براءة طفل.. وكان مشهورا بضرب أي شخص على قفاه ويجري مبتعداً ثم منزويا وضاحكاً.
بديع كان آخر شخص ينام في الشارع في ركنه المفضل داخل الحديقة.. وحين يكون بالحديقة أناس كٌثر كان يجلس على كرتونته لا يفارقها أبدا وكنا نحاول انتزاعه بلا فائدة، وكان الخواجة كرياكو مصري الهوى ذو الملامح الأوروبية من أقرب الناس إلى قلبه.
حتى أنه كان يزوره حين مرض مرضه الأخير ليقبله ويجلس تحت قدميه.. وفي آخر زيارة أعطاه الخواجة وردة كانت بجوار السرير. وقبل دفنه اقتحم بديع غرفته التي كان مٌسجى بها ولم يتركها إلا بعد أن قبلها.... وكان بديع أول المتقدمين جنازته، ثم عاد مهموما...وانزوى في ركنه.
مضت عدة أيام حتى كانت نومته الأخيرة. لاحظنا أنه مازال نائماً والشمس شديدة.. ذهبت لإيقاظه. كان قد فارق الحياة. حملناه للغُسل والدفن.
لم تلاحظ الحزينة ماريا زوجة كرياكو وفاته... حتى زارته لتضع أمامه طعاماً أوصاها زوجها بالاستمرار في إمداده به، فعلمت بموتهن. بكته كثيراً.. جلست مكانه. لاحظت هبوطا في بعض البلاطات أسفل الكرتون غاصت بيدها ورفعت الغطاء فإذا بصفيحة مملوءة بكمية كبيرة من العملات المعدنية والورقية الصغيرة. لم تحصها.. أخذتها وذهبت حيث الزاوية القريبة وضعتها في صندوق النذور.. وبقى في الصفيحة ورقة قديمة وصورة لعائلة تكاد تتشابه ملامحها مع ملامح بديع وملامح الصور التي كان يرسمها وثمة صورة لرجل كبير يحمل بعضاً من ملامح زوجها الراحل. مسحت دمعتها الأخيرة مرددة (لترقد بسلام).