شغلني أمر الفراسة التي اختص بها العرب، واندهشت من دقة معرفتهم ومهارتهم، ويبالغ البعض بنسبها للإسلام ويخص بها المؤمنين؛ إلا أنها في الواقع لا ترتبط بدين ولا عقيدة، وإن اقتصرت على العرب الذين نزل الوحي بديارهم. يقول شعبة بن الحجاج: إني لأرى قفا الرجل فأعرف ما في قلبه، قيل له: فوجهه، قال تلك صحيفة تُقرأ.
وتأتي الفراسة على ثلاثة وجوه: أحدها الفراسة الروحية وهي خاطر يتردد في القلب، وكلما قوي حدسه قويت فراسته وحينما يضعف تتضاءل، وثانيها الفراسة الرياضية وتأتي بالتمرين والتكرار وتحمّل المشاق من العمل والجوع والزهد والتخلي عن المتع؛ لأن النفس إذا تجردت مما يثقلها صار لها كشف بقدر ذلك التجرد! وثالثها الفراسة الخَلقية وهي الاستدلال بالظاهر على الباطن لما بينهما من ارتباط، كالاستدلال بالشكل والهيئة مثل دلالة زرقة العينين على الدهاء والمكر، وسعة الصدر على سعة الخلق والحلم. ولكم أن تتخيلوا حين تصل البراعة في التعرّف على بواطن الأمور من ظواهرها!
ويقع اللبس دوماً بين الفراسة والإلهام، فالفراسة مهارة يتم تعلّمها بالمشاهدة والربط والاستدلال، بينما الإلهام فطري يولد مع الإنسان، ويخطئ من يتصوّر أن الفراسة هي لغة الجسد Body language الذي يُعنى بتفسير وتحليل ظاهر تعابير الوجه وحركات الجسد الآنية فقط دون التعمق في كوامن الأمور وباديها.
ودليل أن الفراسة علمٌ هو سعي الإمام الشافعي لطلبها في اليمن! ويذكر قصةً إبان عودته ومروره في الطريق برجل أزرق العينين ناتئ الجبهة، سناط (خفيف شعر الوجه). يقول الشافعي: بحسب ما تعلّمت في الفراسة أن صفات هذا الرجل أخبث ما تكون، فقلت له: هل من منزل؟ قال: نعم، فأنزلني، فرأيته أكرم رجل، بعث إليَّ بعشاء وطيب، وعلف لدابتي، وفراش ولحاف، قال: فجعلت أتقلب الليل وأتساءل: ما أصنع بهذه الكتب، فلما أصبحت ركبت ومررت عليه، وقلت له: إذا قدمت مكة، فاسأل عن منزل الشافعي، فقال: أمولى كنت أنا لأبيك؟ فقلت: لا، قال: فأين ما تكلفت لك البارحة؟ قلت: وما هو؟ قال: اشتريت لك طعاماً وأدماً بدرهمين، وعطراً بثلاثة دراهم، وعلفاً لدابتك بدرهمين، وأجرة الفراش واللحاف درهمين، وكراء المنزل، فقد وسعت عليك وضيّقت على نفسي بتلك الكتب، قال: فأعطيته وقلت: فهل بقي من شيء؟ قال: لا، فما رأيت قط شراً منه. ومضى الشافعي وهو على يقين بصحة العلم الذي اكتسبه وصدق الكتب التي يحملها.
وفي ذلك مؤشر أن الفراسة علمٌ يتطلب الفهم والفطنة. فتعلموه لعل الله ينجيكم من شر اللؤماء والبخلاء!!