بلومنجتون - «اذكر مصادرك».. يتردد صدى هذا التوجيه الوعظي في أذن كل طالب جامعي متسرع وكل طالب يفضل الطرق المختصرة في مرحلة ما بعد الدكتوراه.. ولكن تُرى هل أفرطنا في التأكيد على أهمية الاستشهاد بالمصادر؟
منذ سن مبكرة، تعلمنا الاعتراف بفضل أولئك الذين شكّلت أفكارهم ورؤاهم تفكيرنا.. وخلال حياتنا المهنية الأكاديمية، نتعلم كيف نورد الإسناد الصحيح للكلمات أو البيانات أو الصور التي نستخدمها.. ويُعَد «الاعتراف بالفضل كلما كان ذلك مستحقاً» المبدأ المحوري الذي يدور حوله نظام النشر العلمي بالكامل.
في الأوساط الأكاديمية، لا يُعَد الاستشهاد بأعمال الآخرين مجرد مجاملة؛ بل هو شرط معياري.. ويكاد يكون من المستحيل أن نتخيل مقالة منشورة في مجلة محترمة من دون قائمة مصاحبة بالمراجع.. ويُعَد انتحال آراء آخرين أحد التصرفات القليلة التي قد تفضي إلى إنهاء حياة مهنية أكاديمية متألقة.
إن الاستشهاد بأعمال الآخرين يعطي السياق للعمل البحثي ويساعد في توجيه القارئ.. فهو يسمح للقارئ بتقييم عمل المؤلف على أساس الجودة المدركة للمراجع المختارة.. ويمكن القارئ من تتبع أعمال سابقة لم تكن معروفة من قبل ولكن من المحتمل أن تكون مفيدة.
وقد أدرك يوجين جارفيلد هذه الحقائق.. ففي عام 1955، أنشأ جارفيلد مؤشر الاستشهاد العلمي، وهو يتألف من قاعدة بيانات تحتوي على كل المراجع المستشهد بها في مختلف المجلات العلمية الأكثر احتراماً، وبالتالي الإلمام بشبكة مترامية الأطراف من الارتباطات بين النصوص المختلفة.. وعلى حد تعبيره: «بالاستعانة بمراجع المؤلفين في تجميع مؤشر الاستشهاد، نستخدم في واقع الأمر جيشاً من المصنفين، ففي كل مرة يستخدم المؤلف مرجعاً، فإنه في واقع الأمر يفهرس ذلك العمل من منظوره الشخصي».
والواقع أن مؤشر الاستشهاد العلمي يمكّن الباحثين من تتبع سلاسل المعرفة على طول وصلات الاقتباس والاستشهاد التي تشكّل جزءاً لا يتجزأ من المؤلفات العلمية.
ولم تغب إمكانات مؤشر الاستشهاد العلمي عن المجتمع العلمي، الذي سرعان ما تبناه أعضاؤه - ولكن ليس للأسباب التي قد يتوقعها المرء.. إن إثراء مادة الموضوع بالاستعانة بتحليلات وصِلات واستنتاجات سابقة تتعلق بنفس النصوص المستشهد بها كان بلا شك جزءاً من عملية الجذب.. ولكن الأمر الأكثر جاذبية كان إمكانية تتبع مدى تأثير المرء العلمي وآخرين بمرور الوقت وعبر أفرع العلم المختلفة، وتحديد العلماء والبحوث والمجلات والمؤسسات التي حظيت بالقدر الأعظم من الاستشهاد بأعمالها.
وبين عشية وضحاها تقريباً، اكتسب ثبت المراجع المتواضع أهمية رمزية كبيرة، وربح العلم ما نستطيع أن نطلق عليه وصف بطاقة النتائج.. ولكن هل يحتاج العلم حقاً إلى بطاقة نتائج؟
لقد سمح مؤشر الاستشهاد العلمي بظهور مقاييس متعددة قائمة على الاستشهاد، وهناك اثنان من هذه المقاييس يستحقان الذكر هنا.
الأول - وهو من بنات أفكار جارفيلد أيضاً - هو عامل التأثير، والذي يقدم مؤشراً افتراضياً لجودة المجلات الأكاديمية استناداً إلى متوسط عدد المرات التي تم فيها الاستشهاد بمقالاتها على مدى العامين السابقين.. ويعزز عامل التأثير المرتفع مكانة المجلة بشكل فوري مباشر.
والمقياس الآخر الملحوظ هو المؤشر h - الذي ابتكره الفيزيائي خورخي هيرش - الذي يهدف إلى قياس إنتاجية الباحثين ومدى تأثيرهم.. وتأتي حسابات هذا المؤشر واضحة ومباشرة: فإذا نشر أحد الباحثين عشرين ورقة بحثية تم الاستشهاد بكل منها عشرين مرة على الأقل، يحصل الباحث على عشرين درجة على المؤشر.. وإذا نشر الباحث 34 ورقة بحثية تم الاستشهاد بكل منها 34 مرة، فإنه يستحق 34 درجة على المؤشر.
وعلى الرغم من القيود الموثقة جيداً والتي تكبل مثل هذه القياسات، فإن بساطتها - ناهيك عن روح المنافسة المتأصلة في التقدم العلمي - تجعلها جذابة على نطاق واسع.. ونتيجة لهذا فقد حكم عليها المتخصصون بأنها مفيدة. والواقع أن بيانات الاستشهاد أصبحت الإحصاءات الحيوية في الأوساط الأكاديمية، مع استخدام الباحثين بشكل روتيني لبيانات عامل التأثير والمؤشر h - جنباً إلى جنب مع أرقام الاستشهاد الخام المتولدة عن مصادر مثل شبكة تومسون رويترز للعلوم (قاعدة بيانات جارفيلد)، وإلسيفاير سكوبوس، وجوجل سكولار - على سيرهم الذاتية.
وعلى نحو مماثل، تعتمد عدة تصنيفات سنوية للجامعات - بما في ذلك ترتيب مركز دراسات العلوم والتكنولوجيا ليدن، وترتيب شنغهاي الأكاديمي للجامعات العالمية، وترتيب كواكياريلي سيموندس للجامعات العالمية، والترتيب العالمي للجامعات - على بيانات النشر والاستشهاد في حساباتها.. ويتعين على رؤساء الجامعات أن يعملوا على تعزيز سجل استشهاد مؤسساتهم، حتى بالرغم من علمهم أن صحة وموثوقية هذه البيانات، والترتيب الذي تورده، موضع شك.
ولا تقتصر المشكلة على الأوساط الأكاديمية.. ذلك أن الجهات الإدارية تستخدم مثل هذه المقاييس لتقييم إنتاجية هؤلاء الذين تستأجرهم وتمولهم، وتتبع التأثير النهائي للبحوث ومشاريع التنمية التي يتولونها، مع عدم الالتفات كثيراً إلى محدودية مثل هذه المؤشرات.. وفي بلدان مثل المملكة المتحدة وأستراليا وألمانيا وإيطاليا، تعمل ممارسات تقييم البحوث على خلق ثقافة التحديد الكمي والمساءلة، حيث تلعب بيانات الاستشهاد دوراً متزايد الأهمية.
وكلما ازداد استخدام هذه المؤشرات «الموضوعية» في تقييم البحوث والموظفين، كلما ازداد شعور العلماء بالالتزام بممارسة لعبة الاستشهاد.. ويعني هذا العبث بالنظام على نحو متزايد من خلال التركيز على العمل الذي يَعِد بعائدات قصيرة الأجل، وملاحقة المواضيع البحثية «الساخنة»، وإنفاق المزيد من الوقت على ترقية الذات (ويعمل انتشار وسائل الإعلام الاجتماعية على تسهيل هذا الاتجاه)، وتشريح وتقطيع أعمالهم بغرض اجتذاب أقصى قدر من الاهتمام.. وكان ظهور ما يُسمى بالقياسات البديلة مؤخراً (مثل عدد مرات التنزيل والتوصيات والإعجاب على موقع فيس بوك والتعليقات على موقع تويتر) سبباً في تكثيف الضغوط المفروضة على الباحثين لتخزين أدلة متعددة الأبعاد تؤكد مدى نفوذهم وتأثيرهم.
لا شك أن توظيف التحليلات الاجتماعية في عالم البحوث والمعرفة ربما يقدم أفكاراً مهمة من شأنها أن تسهل عملية تقييم الإسهامات «الحقيقية» للباحثين والدارسين.. ويكمن التحدي هنا في إدارة المقايضات بين الشفافية والتفاهة. فكما قال آينشتاين: «ليس كل ما يمكن إحصاؤه يُحتسب، وليس كل ما يُحتسب يمكن إحصاؤه».