من مزايا محافظة الأحساء الغالية (وما أكثر مزاياها) أنها ومنذ القدم تمثل التعددية المذهبية والثقافية والفكرية في أروع صورها، وليس ذلك من يوم أو يومين، بل ذلك يعود إلى قرون طويلة. تعددت أسماء هذه البقعة فالبحرين اسمها القديم ثم الخط وهجر والأحساء إلا أن أبرز خصائص هذه الواحة الراقية بأهلها كان هذا التعايش المثالي بين كل أطيافها.
يقول لي صاحبي ممازحا عن شكل من أشكال التعددية الجميلة في هذه المحافظة: أنه لا يمكن أن تفوتك (مثلا) صلاة العصر جماعة في الأحساء....لأن هناك مساجد تصلي العصر في أول الوقت ومساجد إمامها يتبع مذهب فقهي آخر تصلي العصر في آخر الوقت بل قبيل المغرب بقليل وبالتالي فأنت في الأحساء لن تفوتك صلاة الجماعة.
والأحساء كانت ولا زالت وستظل بإذن الله أنموذجا أعلى في المواطنة الصالحة لهذا الوطن.
والأحساء على تاريخها الطويل في الحكم السعودي في أطوارها الثلاثة كانت أنموذجا في التعايش بين ساكنيها وكأنهم أسرة واحدة، فلم ينقل في هذه العقود بل القرون أي حدث يعكر صفو هذا التعايش أو خلاف مذهبي أو طائفي. من أجل هذا وذاك حاول أعداء الوطن والوطنية أن يضربوا هذا الوطن من خلال الأحساء، حيث استغل ضعاف النفوس وأعداء الوطن تجمعا لبعض أبناء قرية تتبع هذه المحافظة وأطلقوا النار عليهم دون هوادة أو رحمة مما نتج عن وقوع قتلى ومصابين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تقول الدكتورة مريم العتيبي في رسالتها لنيل درجة الدكتوراه والتي نشرت مؤخرا تحت عنوان: الأحساء والقطيف في عهد الدولة السعودية الثانية: كما أن العامل الأهم في تميز الأحساء والقطيف يعود على طبيعة الإدارة هناك، فقد تمتعت الأحساء والقطيف طوال فترة الدولة السعودية الثانية بأمراء أكفاء لديهم مقدرة فذة في إدارة المنطقة، ولديهم ولاء شديد للحكومة المركزية وقد استطاع هؤلاء الولاة كسب ولاء السكان في المنطقة وتوجيه موارد المنطقة وسكانها لخدمة الحكومة المركزية، وكانت المنطقة طوال فترة الدولة السعودية الثانية من أشد المناطق هدوءا وولاء لها.
يقول الدكتور ناصر بن محمد الجهيمي نائب الأمين العام لدارة الملك عبد العزيز في دراسة له بعنوان ضم الملك عبد العزيز للأحساء في ضوء الوثائق البريطانية والعثمانية والمحلية، ونشرتها مجلة الدارة في العام (1431 هـ): وفي رسالة من الملك عبد العزيز إلى الشريف حسين بعد ضم الأحساء، ذكر الملك عبد العزيز الأسباب التي دعته إلى استرداد الأحساء بقوله:... هالأيام أمرنا الله على ممالك آبائنا وأجدادنا (الأحساء) و(القطيف) واستولينا عليها بأسهل ما يصير، والسبب لذلك توفيق الباري ـ جل شأنه ـ ثم الأهالي حملتهم الضرورة إلى أن راجعونا واشتكوا إلينا إما أن نمنعهم مما هم فيه من أخذ الأموال وقتل النفوس وعدم الأمن في كل حال من الأحوال، إما أن نساعدهم مثل ما جرى، أو يفرون...أو يلتجئون، بهذا السبب فعلنا السبب، وبحسب النية سهل الله الأمور.... وحين تحدث الجهيمي في مقاله المذكور عن دخول الملك عبد العزيز الأحساء، نقل النص التالي، الذي يصف حال الأهالي عن أحد أبناء الأحساء: ولما علم الناس بحقيقة الأمر سارعوا في آخر ليلهم إلى عبد العزيز يهنئونه بالفتح، ويبايعونه على السمع والطاعة، ولم تطلع الشمس حتى بايعه جميع سكان بلد الهفوف قاطبة...... فجع المجتمع السعودية بكل أطيافه بما حدث مساء الاثنين الماضي في قرية الدالوة في محافظة الأحساء من إقدام بعض المجرمين بإطلاق النار على مجموعة من أبناء هذه القرية الوادعة مما أدى لمقتل خمسة أشخاص وإصابة تسعة آخرين.
وبغض النظر عن المجرم ودوافعه إلا أن السؤال الذي لابد من جواب واضح عليه، وهو لماذا الأحساء تحديدا، وفي يوم العاشر من محرم ؟
أليس الجواب الوحيد لهذا السؤال أن المستفيد من هذا العمل هو جهة أو شخص يرغب في زج مجتمعنا في خلافات طائفية ومذهبية نحن أبعد الناس عنها. مجتمع الأحساء كما يعلم الجميع مجتمع مسالم ونواة صالحة في مجتمعنا السعودي، مما جعل البعض ممن يتلقون توجيهات خارجية للزج بنا في متاهات طائفية كما هو الحال بدول ليست بعيدة عنا.لكن المراهن على وعي الشعب السعودي يعرف أن مثل هذه الحادثة تزيد المجتمع صلابة وقوة بفضل الله، لأنهم لن يستطيعوا أن يسيئوا للحمة الوطنية بحمد الله. الكل يعرف من يقف خلف هذه المصائب، ولعل ما يجري في بعض دول الجوار وسوريا ولبنان يعلم يقينا أن بعض القتلى يقف خلف مقتلهم أناس من بني جنسهم (أو يعلمون ذلك ويصمتون) لوقوع خلافات طائفية تعم المجتمع بأسره.
نعم تجار الفتنة والطائفية هم من يقف خلف هذه المصائب بغض النظر عن مذهبهم وفكرهم وبلدهم.