من الملاحظ اليوم أن هناك تعاليًا ملحوظًا عند جملة من الأكاديميين, ليس في الاقتضاب الاجتماعي فحسب, وإنما في تلك الطريقة التي يتخذون منها ديدنًا في استخدام اللغة المكتوبة أو الشفاهية.
إننا نجد ما يعرف بـ»البرستيج» تارة, و»الكاريزما» تارة أخرى, وما ذلك إلا من باب النزوع إلى فضيلة التمايز إن كان هنالك فضيلة. وما أدري سبب تلك العلة التي تُحيل صاحب المؤهل الأكاديمي إلى الترفع عن ضرورات الحياة, وعدم الحديث عنها بأسلوب سهل قريب؟! فالإنسان كلما كثر علمه وجب عليه أن يتواضع ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
يقلقني المسمى الأكاديمي هذا؛ إذ إنه بحد ذاته يموج ويعج بالتعالي؛ فمن وقف على سبب التسمية ومصدرها أخذته الحيرة من أوسع أبوابها؛ إذ يصرخ المتعالي فيها ويمط شفتيه وتنتفخ أوداجه!!
كان سقراط الفيلسوف المعروف يضن بعلمه على بني جيله من المتعلمين, فلا يتعاطى التعليم في الأماكن العامة كما كان من أفلاطون الذي جاء من بعده, وإنما جعل له مكانًا أشبه ما يكون بالمدرسة اليوم, يعلّم فيها الرياضيات والفلسفة, ولا يقبل من الطلاب إلا من كان متوقد الذكاء دون غيره.
تلك المدرسة كانت تطل على بستان شهير لرجل اسمه «أكاديموس», فسمي من بعد المتخصص في تعليم الفلسفة والرياضيات أكاديميًّا تبعًا لقرب ذلك البستان. والعجيب أن في تلك المدرسة يشيع فيها انحراف أخلاقي مقيت!!
إن تخصيص المدرسة, والنأي عن الناس, والاقتصار على الطلاب متوقدي الذكاء, يبرهن على التعالي في ذلك الزمن, فلم تكن المدرسة معروفة من قبل, والأمور تقارن بنظائرها, ولو أن سقراط اليوم بين أيدينا لما نقمنا عليه, بل لشددنا على يده بلا أدنى ريب, خلا هاتيك الهناة الأخلاقية!!
إن الدارس اليوم من أبنائنا الطلاب الجامعيين يلحظ ذلك التعالي منهم, وهو ناشئ عن الميل إلى محبة التمايز, محبة تفضي إلى الولع, فلا يريهم المحاضر إلا ما يرى, غير عابئ بهاتيك الفلتات العبقرية التي قد تجود بها عقولهم المتدفقة عبقرية, وإنما يقتلون المواهب, إلا ما رحم الله, فلست من ذيّاك الوادي من حيث التعميم.
إن الأكاديمي حين يكتب كثيراً ما نراه يتعمد الإلغاز في تبيان ما يريد أن يوصله إلى القارئ, ولا يرضى أن يكون أسلوبه قريب المأخذ سهل التناول, وإنما يلجأ إلى الغموض تارة, وإلى عسر المصطلح اللفظي تارة أخرى, كما ذاك الخطيب الذي يخطب عن العلوم البحتة في قرية يقطنها الفلاحون المساكين!!
إن الخواء الفكري الذي يستكن ويكمن في اللفظة المبهرجة والمزوقة لا تجدي نفعًا اليوم؛ فالقارئ يريد المفردة الدالة المعبرة, ولربما قفز بعض السطور في المقال الواضح, فكيف بالمقال الذي حسب هذا الأكاديمي أنه يكتب في العصر العباسي!!
لقد جنى أولئك المتعمدون الزخرفة اللفظية على اللغة بلا شك, وأصبح اللفظ هو المطلب عندهم, ولكن قارئ اللغة سئم من هذا؛ إذ نراه يفزع إلى المعنى الجيد الذي يأتي بفكرة تنفعه, كما الشتائم في العصر الجاهلي؛ إذ كان ذاك المجتمع لا ينظر إلى الشتيمة من أنها حقيقة أم لا, فهي تصيب المشتوم بمقتل ولو لم تكن فيه حقيقة. أما اليوم فقد تبدل المجتمع وتغير, فالشتيمة إذا لم يكن لها وجه من الحقيقة في المشتوم فلا يُلتفت إليها, وإنما تمقت الناس الشاتم حين كان كاذبًا!!
إنَّ التمايز الطبقي قد يكون في اللغة كما يكون في الملبس والمسكن والمركب, ولعل حرص قريش وغيرها على إرسال أبنائهم إلى البادية من هذا القبيل, فلما جاء العصر العباسي جلب المترفون وذوو السلطة المعلمين إلى البيوت, وحسبنا كراهة العرب للحن.
يرى عالم الاجتماع «فبلن» أن هذا التمايز الطبقي لا يختلف عن غيره عند المترفين, فكما يبذلون الأموال لشراء السلع التي تميزهم طبقيًّا نجدهم يحرصون على الرطانة بنسق فوقي, كأنما العامة تتحدث من أفواهها, وهم يتحدثون من أنوفهم!!
إن قارئ اليوم في عجلة من أمره, ولا يلتفت إلى تلك الكتب أو المقالات التي راح ذاك الأكاديمي وغيره منتهجًا الفوقية في الصنعة اللفظية فيها؛ إنه يريد الخلاصة, ويريد الفكرة التي يستفيد منها؛ فوقته قصير, بل لا وقت عنده.
إن من المعلوم أن مراعاة مقتضى الحال واجبة, ولست أنكر مثل هذا, وإنما عنيْتُ ذاك التزويق وتلك البهرجة. ولو فرضنا جدلاً أن دور النشر تمنع من التصنع والتعالي الكتابي لوجدنا قلة المنشور؛ إذ لا يجد مولع التمايز الطبقي ما يتمايز به؛ فالأفكار شحيحة ونادرة, وليست كما التباهي اللفظي الممقوت!!