حينما أصدر خادم الحرمين الشريفين أمراً بإنشاء هيئة عامة لمكافحة الفساد في مارس 2011، كان يدرك أن المملكة مثل غيرها تعاني من الفساد، بل كان الفساد من أهم معوقات التنمية في المملكة، التي لولا ارتفاع معدل الفساد لكانت من أبرز دول العالم تقدماً في مختلف المجالات، ويكفي أن دول الاتحاد الأوروبي وهي الأكثر أنظمة ووعياً وانضباطاً، مازالت تعاني من ارتفاع فاتورة الفساد التي بلغت حسب تقرير الاتحاد في فبراير الماضي 162 مليار دولار سنوياً، وهذا المبلغ لوحده يكفي لتمويل الميزانية التشغيلية السنوية لدول الاتحاد الأوروبي مجتمعة البالغة ثمانية وعشرين دولة!
عوداً إلى المملكة، فقد كشفت أرقام وزارة العدل عن عدد من الصكوك المزورة، لم يكن لها مستند قانوني، فأعيدت إلى أملاك الدولة، خلال العام المنصرم فقط، وهي من فئة صكوك الأراضي ذات المساحات الضخمة، التي منحت بلا مستند نظامي، ولا يوجد لها في إرشيف كتابات العدل ما يثبت صحة أصلها، والأمر المؤرق أن المساحة الإجمالية لهذه الأراضي خلال العام 1435، أي خلال عام واحد فقط، نحو 1451 مليار متر مربع، أي 1451 كيلو مترا مربعا، وفي إحصائية نشرتها إم بي سي نت، فإن هذه المساحة الشاسعة تعادل خمسة أضعاف ما تملكه وزارة الإسكان، البالغة 300 ألف متر مربع، تلك الوزارة التي تحججت في البدايات بعدم توفر أراض حكومية، يمكن توزيعها على المواطنين، أو إقامة المشروعات السكنية التي تعتمدها الوزارة عليها، قبل منحة مليارات الريالات للوزارة!
ومن غرائب أرقام هذه المساحة المهولة من الأمتار المربعة، بل الكيلومترات المربعة، للصكوك المزورة التي ألغيت، أن مقارنتها بمساحات المدن الكبرى كالرياض وجدة والدمام والخبر ومكة المكرمة، جعلتها تحتل المركز الثالث بعد الرياض وجدة، اللتين تبلغ مساحة كلا منهما 2395 كيلومتراً مربعاً، و1765 كيلومترا مربعاً على التوالي، لتتجاوز مساحة مدينتي الدمام والخبر معاً، وبقيمة تقديرية تصل إلى 650 مليار ريال، أي 173 مليار دولار، وهو أكبر من فاتورة الفساد في دول الاتحاد الأوروبي للعام المنصرم، أي أن قيمة هذه. الأراضي الملغاة صكوكها - ولله الحمد - تزيد عن الميزانية التشغيلية السنوية لدول الاتحاد الأوروبي!
رغم المرارة التي يشعر بها المرء من هذا الفساد المخيف، في وزارة واحدة فقط، هي وزارة العدل، إلا أننا نشعر بالأمل، والتفاؤل بمستقبل أجمل، وأكثر شفافية، خاصة في عهد خادم الحرمين الشريفين، الذي نتمنى أن نسير قدماً بشفافية أكبر، وعمل أكثر نزاهة وجرأة لهيئة مكافحة الفساد، في مختلف القطاعات، لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة للقضاء على أزمة السكن، وتردي الخدمات الصحية، والتعليمية، خاصة إذا صحبها مساءلة جميع الجهات الحكومية من قبل مختلف الجهات الرقابية، عما قامت بتنفيذه هذه الجهات من مشروعات وخدمات للمواطنين!
حتماً، أن تنهض متأخراً، وتقلّم أظفار الفساد، خير من ألا تنهض أبداً.