لا سبيل إلى أدنى حد من السلامة في ظل الواقعة، والقارعة، والصاخة، وسائر مشاهد القيامة المذهلة، التي تعصف بالمقيم، والظاعن؟؟. وتأخذ البريء والمتهم؟؟. وتأكل الرطب، واليابس؟؟. وتأتي الأرض العربية لتشعلها من أطرافها، إلا بانكفاء أهل كل قرية آمنة مطمئنة على أنفسهم. لا يهمهم إلا المحافظة على مكتسباتهم: الحسية، والمعنوية. والجنوح إلى السلام مع الذات، ومع الآخر. والدفع بالتي هي أحسن، ما أمكن ذلك.
ومن ظفر بالسلامة في زمن الوباء المستشري، فليحمد الله، وليسأله الاستقرار، والثبات، ودفع البلاء؟؟، والسلامة من شماتة الأعداء، والنجاة من سوء القضاء. وليستعذبه من فُجاءة النقمة، وتحوُّل العافية. إذ ما عاد بمقدور أحد أن يقرأ الأحداث كما هي، ولا أن يرتِّب أشياءه بالقدر الكافي، ولا أن يضمن نجاح خططه، وسلامة تدبيره. فالزمن زمن المفاجآت الغريبة، والتقلبات المريْبة.
والأمة العربية من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، تمسي على فتنة، وتصبح على أخرى، ترقق سابقتها.
والخَلِيُّ من لا يفرق بين الأحداث، ولا يرتب أموره، ومواقفه على ضوء مخاضات الأيام العصيبة. وما أكثر هذا الصنف. وحُقَّ للشجي أن يصيح بملء فمه بالويل والثبور، كما قال سلفه:-
[ويلٌ للِشَّجِي من الخلي].
وكم تروعني اللامبالاة من أحداث أغرار، نحقر صلاتنا عند صلاتهم، وصيامنا عند صيامهم، وصلابتنا في الحق، عند صلابتهم في الباطل، يمرقون من الأمن، والرخاء، والاستقرار، كما السهم يمرق من الرمية.
تراهم، وتسمعهم في حركاتهم، وأقوالهم، وكأنّ القتل الهمجي، والتدمير الوحشي المُلْتَفِّ من حولهم، كحبل الفجيعة الملتف حول العنق، لا يعنيهم، بل يقوم رهانهم على أنّ هذا الفعل المستنكر هو الطريق القاصد، لتصحيح الأوضاع، وبدء الحياة السوية على هَدْيٍ من الكتاب، وصحيح السنّة.
وكيف تتأتى السلامة من متوحشين، تكمن لذّتهم في سفك الدماء البريئة، وهدم البيوت المأهولة، وتدمير البنى التحتية. وسيان في ذلك من يرفع راية الرحمن مُخادعاً، أو راية الشيطان معانداً.
إنّ مجرد التفكير بأنّ الطريق إلى الإصلاح، لا يكون إلا بالقتل، والتخويف، والتجويع، والتدمير يُعَدُّ من الموبقات، والركض إلى الهاوية، وخلع الرداء الإنساني، والاتشاح بدثار التوحش. لا فرق في ذلك بين إرهاب منظم، تنشئه الدول، وترعاه، أو إرهاب فوضوي يمارسه شذاذ الآفاق.
لقد تَصَدَّت أقلام العلماء، وإبداعات الأدباء، وتعليلات المفكرين، وتأويلات الساسة. وصدعت ألسنة الخطباء، والمتحدثين، لتعرية المتوحشين، المتلونين تلون الحرباء، وما زادهم الحَرْفُ، والصوت إلا إيغالاً في التوحش، واتساعاً في مناطق النفوذ، وتهافتاً على بؤر التوتر. والمنكي أن المتوحشين مطاردون في الأودية، والشعاب، والضراب، والآكام، وتأثير دعوتهم ينساب كالخدر في الأحسام.
وأنا في صيحة النذير المبحوحة. لا أريد استعراض المسميات، والتصنيفات، والانتماءات، فكل من جرد خِنْجَره، أو صوّب بندقيته، وقتل مُسْلماً مُسَالماً، أو هدم بيتاً قائماً، فهو إرهابي. كائناً من كان. سواء اتشح برداء الإسلام، أو تزيأ بزي التحضر، أو ادعى بدعوى الجاهلية.
فالإسلام والإنسانية، والحضارة الحقَّة، تحترم الإنسان لإنسانيته. والدين الإسلامي كرَّم بني آدم، كائناً من كان. وندب إلى الجنوح إلى السِّلم، بوصفه الخيار الأول.
ألم يُحَذَّرْ رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم أمته من أن يعودوا من بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض؟
ما نراه، ونسمعه في ديار الإسلام محسوب على الحرابة المحرَّمة، وهو قتل مُسْتَحِرٌّ، بين فئات ترفع راية الإسلام، وتقاتل من أجل إعلاء كلمة الله، كما هو متداول. وأي إعلاء لكلمة الله، والمستهدفون من المسلمين، وحَمَلته، والمستضعفين من الرجال، والنساء، والولدان، مِمَّنْ لم يشهروا سلاحاً، ولم يرتكبوا جرماً، ولم يظلموا الناس حبة خردل؟.
إنّ الزمن المترع بالدماء، والدمار، لا يصلحه إلا التعايش، والتصالح، والتعاذر، وإن كان ثمة دعوة، فَلْتكن إبلاغاً، تمشياً مع [بلِّغوا عني ولو آية].
إنّ على حَمَلة الأقلام، وفصحاء الألسنة أن يردّوا الإنسان المتوحش إلى إنسانيته. فإذا شعر أنه إنسان، وأنّ الأخوة الإنسانية تحول دون القتل والتدمير، أمكن أن يكون أول الدعوة شهادة التوحيد، فإن هم أجابوا لذلك، تُلِيَتْ بما هو حقها.
لقد أثخن المتطرفون في أرض الإسلام، فيما بقيت أرض العدو آمنة. وكيف يتأتى نصر الله لمسلمٍ لم يبرع إلا في قَتْل أخيه المسلم، في حرابة همجية، لم يأمر بها سلطان، ولم يعضدها قرآن، ولم تقرّها شريعة، ولم تقبلها إنسانية.
وكيف يتعامل العاقل مع هذه الفوضى المدمرة، التي وفرت للأعداء الحقيقيين السلامة، والقوة، وحقن الدماء. ومكّنتهم من إجهاد الطريدة. وكيف يتحقق الجهاد الإسلامي، والمقاتل لا يحمل بيعة، ولا يأتمر بمعروف، ولا يصنع سلاماً، ولا ينسج رداء، ولا ينتج غذاء.
وكيف تشرئب أعناقنا لشاطئ السلامة، وشباب الأمة يختلفون حول تلك الظواهر، التي لا يقرها عقل، ولا يؤيدها دليل، ولا يقبل بها إلا ناقص عقل ودين.
إن مجرد الاختلاف حول تلك الجماعات المتوحشة مؤشر تخلف، واختلاف يُهيئ المجتمعات لمزيد من الدماء، والدمار.
وفي ظل هذه الأوضاع غير السوية لابد من سياسة الحياد الإيجابي، وتقوية الجبهة الداخلية، ورفع كافة الملفات، فالوقت لا يحتمل مزيداً من المزايدات.
هبوطٌ في أسعار النفط. وانهيارٌ للأسهم. وتباينٌ في وجهات النظر الخليجي. وتعقبٌ للإرهاب غير مأمون العواقب، وغير معروف النفقات. وتطويقٌ طائفي لمنطقة الخليج. وانكشافٌ مريب لسياسة المصالح. وخيانةٌ للعهود والمواثيق. ومراوغةٌ في الأقوال، والأفعال. وتغافلٌ عن استفحال التعصب. ومماطلةٌ في تنفيذ القرارات الدولية. واستمراءٌ لتعدُّد المكاييل.
إنها لإحدى الكبر، التي يقف الخليجيون أمامها، وليس في يدهم إلا الجبهات الداخلية، التي لم تستوعب الموقف بالقدر الكافي، ولم تتعامل معه بما يتطلبه التصعيد المخيف من الأعداء، والتخاذل المريب من الأصدقاء.
هذه الظروف الأصعب التي يمتد ظلالها كالوباء على أرض العروبة، والإسلام، تستدعي الجنوح إلى التعايش بين الأخ، وأخيه، داخل المنظومة الواحدة، بل في البيت الواحد، والأسرة الواحدة، وإشاعة ثقافة التسامح، والوسطية، والتضلع من فقه الواقع، والتعرف على الممكن، والمستحيل. فما عاد بالإمكان احتمال الاهتياجات، والركون إلى الأحلام الطوباوية. فالمسألة:
إما حياة في أدنى محققاتها، أو موت في أقسى لحظاته..
دائرة الولاء والبراء تتسع، وتضيق، وفق الظروف المحتدمة، تكون تارة للأرض المقلَّة، أو للغة الرابطة، أو للطائفة، أو للمذهب، وهي في أوسع نطاقاتها للإسلام المتسامي فوق المذهبية، والطائفية، والحزبية، والقطرية.
فلنكن سبّاقين لحقن الدماء، ووأد الفتن، وغمد السلاح، ولْنعي مخاطر اللعب السياسية القذرة، التي فرّقت الكلمة، وأذهبت الريح، وأفشلت الأعمال، وأضلّت الأفهام، وأللَّهت الأهواء.
الدول القوية بوزاراتها، وقوّاتها، ومجالسها النيابية، وشُعَبِ الخبراء والمستشارين فيها، لم تحقق الانتصارات، ولا الامتدادات بالقدر، وبالسرعة التي تحققها التنظيمات الإرهابية، التي لا تملك أرضاً، ولا تصنع سلاحاً، ولا تطبع عملة.
فمن وراءها؟.
ومن الذي يمدها بالمال، والسلاح، والمعلومات؟.
إنها اللعب السياسية، التي اشترت من المغفلين أنفسهم، ولم تدفع لهم ثمناً بالقدر الذي يدفعه الله للمؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم.
إنّ على المواطن السعودي الذي صَدَّت قيادته كل [السوناميات] أن يعض على المكتسب بالنواجذ، وأن يمنح قيادته الفرصة لتوجه كل الإمكانيات إلى جبهات المواجهة، عسى أن تبلغ السفينة شاطئ السلامة.