نشرت إحدى الصحف الأمريكية رسماً بيانياً يوضح أعداد الذاهبين إلى مواقع القتال في سوريا، من جميع دول العالم، ليس من الدول العربية والأوروبية، بل حتى من الدول الإسكندنافية، التي يشعر المرء أنها بعيدة عمَّا يحدث في العالم، وتعيش في هدوء ورخاء، وتطبيق لحقوق الإنسان لا نظير له حتى في أوروبا، فلماذا تقاطر هؤلاء من دول العالم أجمع؟ وما الذي يجمع بينهم؟ وإلى ماذا يسعون؟ ما هي طموحاتهم وأحلامهم في الانتقال من دول متقدِّمة في كل المستويات، إلى دولة أصبحت - في ظل حربها الدول - مثل إحدى مدن القرون الوسطى؟
ولو بدأنا في أرقام المقاتلين من الدول العربية، لازدادت دهشتنا في أن تحتل أكثر الدول العربية مدنيةً وتطوراً في حقوق الإنسان، وتمكين المرأة، المركز الأول على مستوى الدول العربية والعالم، فالمقاتلون من تونس الخضراء بلغوا ثلاثة آلاف مقاتل، بشكل يدعو إلى الدهشة والتساؤل من أين جاء هؤلاء؟
وعلى الرغم من مدنية تونس، وقلة عدد سكانها قياساً بمصر، إلا أن الفارق شاسع بين ثلاثة آلاف تونسي، ونحو 358 مصرياً دخلوا سوريا للقتال، مع كل الانتماء القديم والترابط التاريخي بين مصر وسوريا، خلال سنوات الوحدة في الخمسينيات، زمن عبدالناصر، ومع كل التديّن الواضح لدى الشعب المصري قياساً بالتونسي، خاصة إذا كان المقاتلون في سوريا ينتسب معظمهم إلى التيارات الدينية المتطرفة، أو التيارات الجهادية!
تأتي بعد ذلك، دول السعودية والأردن والمغرب ولبنان على التوالي، ثم دول الخليج بأعداد قليلة نظراً لقلة عدد سكانها، ومن أقل المقاتلين يذكر الرسم البياني عشرين مقاتلاً من إسرائيل، وربما المقصود من فلسطين، وهو رقم صغير قياساً بالدول العربية التي صدّرت ما يشارف الألف مقاتل على أقل تقدير.
في أوروبا تتصدر بريطانيا وفرنسا قوائم المقاتلين، بنحو 488 و412 مقاتلاً على التوالي، ثم تأتي بلجيكا وألمانيا وهولندا، والغريب أن تأتي الولايات المتحدة من حيث عدد المقاتلين الذاهبين إلى سوريا بعد كل هذه الدول الأوروبية الخمس، بنحو 130 مقاتلاً فقط، ذلك على الرغم من كثرة العرب والمسلمين الأمريكان، مما يعني أن ثمة دلائل تشير إلى أهمية التثقيف بما يحدث من إرهاب في العالم، وحروب طاحنة عشوائية، ليس من العقل الدخول فيها!
قرأت قبيل أيام عن فتاتين مراهقتين من النمسا، إحداهما في الخامسة عشرة، والأخرى في السابعة عشرة، غامرتا بالسفر إلى سوريا، بحثاً عن المغامرة، واكتشفتا أنهما وقعتا في فخ استغلال جسدي فوق تصوراتهما البسيطة!
يبقى السؤال المهم، من أين جاء هؤلاء؟ ولماذا جاءوا؟ وعمّ يبحثون؟ فإذا كان المسلمون من مختلف دول العالم يأتون بحجة الجهاد، قبل أن يكتشفوا أن الواقع هو حرب عصابات وغنائم، فما مبرر القادمين من دول أوروبا، كالنمسا والسويد والنرويج والدنمارك؟ هل يبحث بعضهم عن مُثُل ومبادئ، عن حرب عادلة ضد الظلم والطغيان؟ قبل أن تتكشف لهم الأمور بأن المسألة ليست سوى حرب عشوائية، واستغلال للقادمين الجدد، وتدوير لتجارة الأسلحة إنقاذاً لاقتصادات بعض الدول المستفيدة!
إن مثل هذه الأرقام، وهذه الظاهرة الاجتماعية، تستحق التوقف والدراسة والتأمل، وفهم نفسيات هؤلاء المتورطين في بؤر الصراع، لأن ذلك يمكن أن يفيد في تغيير الواقع، وبناء مستقبل أكثر وعياً وأملاً!