قرابة ربع قرن مضت على غزو صدام للكويت ثم تحريرها وقصف مدننا بما فيها العاصمة الرياض بالصواريخ. تقول الإحصائيات إن ما يوازي 70% تقريبا من سكان المملكة الآن لم يعاصروا حرب تحرير الكويت وقصف مدننا بالصواريخ أو أنهم كانوا أطفالاً صغاراً لا يعون حينها. لذلك عندما اندلعت نيران الشرور الطائفية القميئة بين السنة والشيعة، بسبب غزو العراق من قبل الأمريكيين وإسقاط صدام وتسليم العراق للمتطرفين الشيعة كان أغلب هؤلاء الصغار حطبها والمتحمسين لها. فانطلق عفريت الصراع الطائفي من القمقم وعمَّ كل المنطقة وانقسمت شعوبها إلى سنة وشيعة يتماحكون ويتخاصمون ويتشاتمون ويتقاتلون تماماً مثلما كانوا يفعلون في الأزمان الغابرة.
صدام لمن عاصر غزو الكويت وسمع بالأهوال المفجعة التي كان يرويها لنا الكويتيون حينما استضفناهم في مدن المملكة كانت أشبه ما تكون بفظائع (داعش) عندما تجتاح المدن العراقية والسورية اليوم. فقد كان رئيساً وحشياً أحمق بكل ما تحمله الكلمة من معنى، اتخذ قرارات خطيرة ومصيرية دون أن يُقدر مآلاتها وعواقبها جيدا، وانتهت به وببلاده. بل وبالمنطقة برمتها إلى ما نحن نعاني منه الآن من كوارث.
قضيتي هنا هي كيف أصبح من قصف مدننا وعاصمتنا بالصواريخ، وهددنا بالكيماوي، وبثَّ الرعب والخوف في كل مدن المملكة التي تستطيع أن تصلها صواريخه، يتحول اليوم إلى بطل وشهيد ما إن تنتقده حتى تتلقى سيلاً من الانتقادات بل والشتائم بأنك (تناصر) الشيعة وتقف ضد السنة، ثم تسمع قصائد (عامية) تمجد بسذاجة هذا المجرم المجنون!
تسأل: ألم يقصفنا بالصواريخ؟.. ألم يجثم كالغول بجيوشه على حدودنا يتحيّن الفرصة ليكتسح بلادنا كما اكتسح الكويت؟.. ثم ألم توزع الحكومة الكمامات الواقية من السلاح الكيماوي خشية من أن ينفذ هذا المجرم المجنون تهديداته ويُحيل مدننا إلى (حلبجة) الكردية في العراق حين قصفها بالكيماوي فأباد الألوف من شعبه بوحشية لم يفعلها حتى الدواعش المتوحشين اليوم؟.. فلا تجد إلا اللامبالاة وعدم الاكتراث والمغالطة وكأن الرياض عاصمة (نيكاراقوا) وليست عاصمة بلادنا.
و(حفر الباطن) مدينة على تخوم بوركينا فاسو وليست على تخوم وطننا!
السبب في تقديري يعود إلى نقطتين جوهريتين: الأولى: أن معاداة الوطن ومواطنيه لا قيمة لها في معايير ثقافتنا، فالأهم ليس الوطن ولا حدود الوطن ولا أهل الوطن، ولا مدينة (الخفجي) التي اجتاحها، ولا الرياض التي قصفها، ولا السعوديين الذين ارتعدت فرائصهم خوفاً وهلعاً من صواريخه، مقابل أنه كان كما يقولون (كاتم أنفاس الشيعة في العراق).. أي أن الانتماء للطائفة مقدم على الانتماء للوطن!
النقطة الثانية أن أغلبية من هم في سن الشباب اليوم كما أشرت سابقاً إما أنهم لم يعاصروا غزو الكويت ولا تحريرها أو أنهم لا يكترثون أصلا بالوطن ومن هم موالوه ومن هم أعداؤه قدر اكتراثهم بالطائفة والتعصب المذهبي؛ وأيا كان السبب فلا بد لنا أن نعترف بأننا فشلنا فشلاً ذريعاً في كتابة تاريخ وطننا المعاصر ونشره وتكريسه في أذهان النشء الجديد، فحضرت تواريخ حوادث جرت قبل 1400 سنة، وغابت حوادث جرت قبل 25 سنة. وما حصل قبل 1400 سنة تاريخ مضى وانتهى وإثارته اليوم تعني الفتنة الطائفية، في حين أن ما جرى قبل 25 سنة هو تاريخ هذا الكيان، من شأنه أن يرسخ ويكرس اللحمة بين أبناء الوطن بجميع مذاهبه وفئاته.
إنه غياب الشعور بالوطنية مقابل أن هناك من يُحرض الشباب لإلغاء تاريخ الوطن، قريبه وبعيده، والاستعاضة عنه باستحضار تاريخ زمن الفتنة في القرن الهجري الأول لأن ذلك من شأنه أن يُضعف اللحمة بين أبناء الوطن، فيكون لهؤلاء الطائفيين صوتاً ومكانة وقيمة، وهو غاية ما يطمحون إليه؛ لا فرق في ذلك بين «نمر النمر» الشيعي أو أولئك الصبية (السنة) الذين يُقاتلون مع (داعش) ويضحون بأرواحهم لبواعث محض طائفية.
إلى اللقاء