إن العلوم والمعارف، والمُخترعات والمُكتشفات، والمدنية الحديثة بأجمعها حسنة من حسنات الفقر، وثمرة من ثمراته، وما المداد الذي كتبت به المُصنفات، ودُوِّنَتْ به الآثار إلا دموع البؤس والفاقة، وما الآراء السامية والأفكار الناضجة التي رفعت شأن المدنية الحديثة إلى مستواها الحاضر إلا أبخرة الأدمغة المُحترقة بنيران الهموم والأحزان، وما انفجرت ينابيع الخيالات الشعرية، والتصورات الفنية، إلا من صدوع القلوب الكسيرة؛ والأفئدة الحزينة، وما أشرقت شموس الذكاء والعقل في مشارق الأرض ومغاربها إلا من ظُلمات الأكواخ الحقيرة والزوايا المهجورة، وما نبغ النابغون من فلاسفة وعلماء، وحكماء وأدباء، إلا في مهود الفقر، وجحور الإملاق، ولولا الفقر ما كان الغنى، ولولا الشقاء ما وجدت السعادة.