في طريقي إلى جامعة هيستن فيكتوريا في ولاية تكساس الأمريكية استوقفتني لوحة إعلانية في مدينة شوقرلاند كتب عليها ما معناه «نحن لا نخلق المشكلات لأننا مشغولون بخلق الفرص».
وقد استأثرت هذه العبارة بحيز كبير من تفكيري في ذلك الصباح مما قادني إلى أن استحضر بعض من عاداتنا الاجتماعيَّة خاصة تلك المتمثلة بانشغالنا بالآخر وكافة الظوهر من حولنا، التي ربَّما اشغلت البعض منا عن أداء دوره ومسؤولياته في البناء والتنمية. وأودت بالكثير أن ينشغل بما لا يعنيه عمَّا يعنيه.
ربما يلاحظ البعض أننا أصبحنا نهتم بكلِّ شيء ونعنى بكلِّ شيء ونفتي بكلِّ الأشياء من حولنا. تحولت لقاءاتنا الاجتماعيَّة إلى حوارات ساخنة في الشأن الاقتصادي والسياسي والديني والصحي والعلمي.....الخ.
وأضحى الصَّغير منا والكبير والأمي والمُتعلِّم يدعي العلم والمعرفة في كلِّ المجالات ويفتي في كلِّ مناحي الحياة.
والمؤلم أن هذا السلوك يمارس حتَّى من المُتعلِّمين وطلبة العلم الشرعي وغيره. لم نعد نميز بين الطّبيب ورجل الدين الذي أصبح هو الآخر يفتي حتَّى في الحالات الطّبية الدقيقة. ويكاد البعض من المحسوبين على العلم الشرعي يصرف وصفة طبية لعلاج أخطر الأمراض وأكثرها تعقيدًا. ومن يراوده الشك في هذه الحقيقة فليطلع على ما يفعله بعض القراء من الرقاة ومن يدعون العلم الشرعي من كتابة وصفات طبية ليس للمرضى النفسيين فحسب بل لجميع الأمراض المستعصية، وهو علِمَ لا يمكن أن يدعيه أمهر الأطباء وأكثرهم خبرة ومهنية. وآخر يستخدم علمه الشرعي المحدود للإفتاء بالجهاد في معارك صراع إقليمي لا يدرك ببصره القصير ولا ببصيرته المحدودة أبعادها السياسيَّة وأطراف النزاع فيها والمستفيد النهائي من تلك المعارك والحروب. وما تجره فتواه من مآلات على دينه ومجتمعه ووطنه.
في مجتمعنا، الكل يدعي فهم كل شيء: في السياسة، في الاقتصاد، في الطب، في الفقه...الخ. حتَّى إنك عندما تكون في لقاء اجتماعي لا تكاد تعرف السياسي من الطّبيب من رجل الدين. انشغلنا بما لا يعنينا عمَّا يعنينا. اشتغلنا بالغير عن أنفسنا وأشغلنا أنفسنا بما لا يخصنا عمَّا يخصنا. حتَّى أصبح الكثير منا يعرف عن كل شيء ولا يتقن أيّ شيء. يا لها من مفارقات عجيبة!!
الانشغال اللا حضاري في كلِّ شيئ أدَّى إلى استنزاف الجهد والطاقة والوقت وتشتيت الذهن للكثير منا وأفضى إلى شحن الأذهان بهموم متباينة وقضايا اجتماعيَّة واقتصاديَّة ودينية وسياسيَّة...الخ على حساب التركيز على مجالات محددة واكتساب الخبرات التراكمية فيها والإنجاز والإبداع في مجالات تخصصية محددة. لا يمكن للإنسان أن يبدع في مجال معين إذا كان همَّه معرفة كل شيء والخوض فيه والادعاء بإتقانه.
أذكر أنّه ـ عندما كنت طالبًا في جامعة نيويرك الحكوميَّة في الباني ـ تَمَّ إعداد استبانة على المارة من أمام الكلية تتَضمَّن سؤالاً واحدًا ينص على: من هو نائب الرئيس الأمريكي؟ وبالرغم من أن السؤال موجِّه للأمريكيين أنفسهم فلم يعرف الإجابة عليه سوى 37 في المئة من المارة. في المجتمعات المتحضرة يهتم الأفراد بما يدخل في نطاق أعمالهم وتخصصاتهم حتَّى يبدعوا فيها، ولا يستعيب الشخص الاعتراف بعدم معرفة ما لا يدخل في دائرة اختصاصه.
هذه ـ بطبيعة الحال ـ ليست دعوة إلى أن يكون الإنسان أمعة لا يعرف ما يدور في فلكه فهذا أمر محمود ومعروف بالفطرة، ولكنها تذكير بأننا لسنا مطالبين بمتابعة شؤون الآخرين وأن نكون خبراء في كلِّ الظواهر من حولنا ونمتلك القدرة على تفسيرها والخوض في مسبباتها ومآلاتها وإصدار روشتات لمعالجتها.
الذي أردت أن أصل إليه هو أن انشغالنا بالآخرين وبكل الظواهر من حولنا أفقدنا القدرة على التركيز وحده من إبداعاتنا وإنجازاتنا كأفراد وجماعات وأثقل كاهل الكثير منا.
والله من وراء القصد.