عندما نسمع أو نشاهد أو نقرأ فإن ذلك يتم تحليله سريعاً، فما كان منسجماً مع العقل يصبح منطقاً، أي من خلال التحليل يستقر في العقل، ومن ثم يؤثر فيه من خلال الأقوال والأفعال. إنني هنا أتحدث عن الأشخاص الأسوياء الذين يتعاملون مع منطق القول والفعل في جميع الأمور. وفي المقابل، لا ينطبق على الأشخاص المخالفين لمجرد الخلاف فقط. وهؤلاء ينعدم لديهم المنطق؛ ومن الأفضل عدم النقاش والاسترسال معهم؛ لأنك لن تغير تفكيرهم ولو حرصت.
أذكر هنا أن القول السديد لا يصدر من فكر جاهل، إنما يصدر من فكر سديد. ونعلم أهمية الفكر الرشيد كما بينها القرآن الكريم في كثير من الآيات بقوله تعالى {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِه أَهْدَى أمن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
والحاصل اليوم في أحوال المسلمين من تأخر وتخلف يرجع لعدم اتباع ما أمر الله به سبحانه وتعالى، الذي أدى إلى ركون وتأخر في التطوير في شتى المجالات، ولم تستطع الدول الإسلامية استرجاع أمجادها، لكن أخذت تتغنى في الماضي، والماضي البعيد، ولم تستطع مقارعة الدول المتقدمة.
وعندما نتحدث عن أسباب هذا الركون والتخلف فإننا نضع أهمها على الإطلاق، ألا وهو إهمال أهم عنصر، وهو عدم الاهتمام بتنمية ملكة التفكير الرشيد، التي أكرم الله بها الإنسان عن سائر المخلوقات.
ومما يدعو إلى الدهشة والاستنكار أن مدارس العالم الإسلامي لا يدرَّس فيها مادة تعلم التفكير. وفي المقابل، نرى الدول الغربية المتقدمة تهتم كثيراً، وتعطي أولوية كبيرة لتدريسها. ونحن نردد كثيراً أن الفرد هو أساس التنمية، وأنا لا أخالف هذا، لكن أختلف هنا في طريقة تدريسه وتأهيله، وهو لم يدرس أساساً فن التفكير، الذي من خلاله يصل إلى الإبداع.
وقد قرأت حول هذا الموضوع أن دولة فنزويلا فرضت على طلاب المدارس أن يدرسوا ساعتين في الأسبوع مادة (مهارات التفكير)، وقامت بتدريب أكثر من مئة ألف معلم. وقد طبقت هذه المادة دول عديدة، منها بريطانيا - كندا - إيرلندا - أستراليا - نيوزيلندا.
وفي المقابل، نرى كيف تتم طرق التعليم عندنا، التي تقوم على مبدأ التلقين والتفريغ.. وليس على مبدأ أسلوب التفكير والتدبر وما ينتج من ذلك من إبداع وغرس الثقة بالنفس ومحاكاة العقل واكتشاف الموهوبين.
ولم أقصد الموهوبين الذين يفرغون ما تلقنوه وحفظوه، وهذا هو الحاصل عندنا.
ونتساءل: لماذا هذا الفرق بيننا وبين الدول المتقدمة؟
إننا حالياً بحاجة ماسة جداً إلى تطبيق مادة طرق التفكير التي تتعامل معهم مباشرة، ولا بد من إدخالها في سن مبكرة في المدارس واللحاق أيضاً في الجامعات، ويتم تدريبهم على أسس التفكير الذي يؤدي للإبداع، وهذا يحتاج إلى اختيار الأساتذة والمعلمين الأكفاء بعناية، وعمل الدورات اللازمة لهم، التي تبصرهم بطرق التفكير الناجح.
وديننا الإسلامي يحاكي العقل، وقد وردت آيات كثيرة في قوله تعالى {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}، {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ}، {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ}، {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}..
هذه الآيات الكريمة تقرر التفكير، وتحث عليه، وتبيّن أن العقل الذي يخاطبه الله سبحانه هو الذي يدرك الحقائق، ويميز بين الأمور.
إنَّ المتبصر للقرآن الكريم يجد فيه آيات تحفز على ممارسة مهارات التفكير، منها على سبيل المثال لا الحصر مهارة الإصغاء - مهارة الانتباه - مهارة التفكير - مهارة الربط - مهارة التفريق - مهارة الاستنتاج.
نعود للمنطق، وهو البحث عن الحقيقة عن طريق التمييز الصحيح والإلزام بالحجة.
في المقابل، نشاهد مناظراتنا في محيطنا الإسلامي، وما يحدث فيها من إسقاطات، كل يحاول إسقاط الآخر، وليس التوجُّه نحو نقاش قائم على فكر هادف، يصل في نهاية المطاف إلى منطق متكامل، يعود بالنفع الكبير على المتلقي.
ومن خلال ما تقدم، ليس عيباً أن ننهض ونصحح مناهجنا، ونركز على تعليم التفكير؛ فذلك أفضل بكثير من بقاء الأوضاع كما هي؛ فالنهوض والعمل الجاد خير من الركون والتغني بالماضي.
أتمنى أن تكون الأفكار وضحت، وليس هذا فحسب، وإنما يتم تطبيقها في واقعنا، وسوف نجني الكثير والكثير.
وما دفعني لتناول هذا الموضوع هو أهميته؛ إذ إن الإنسان المبدع المفكر هو من يقود التنمية. وبالله التوفيق.