إن المجتمع الدولي لا يعيش اليوم أزمة منظمات ولا أزمة تنظير وقوانين بقدر ما يفتقد إلى وجود ضمير حي يعرف به الحق من الباطل والراجح من المرجوح والظالم من المظلوم، فالضمير الإنساني الذي هذه صفاته لن يعدل مزاجه ولن يرد صوابه إلا تعاليم الأديان والمثل العليا.. فإنَّ الضمير الإنساني يتخبط اليوم في أتون الضلال وزواريب ليلٍ دامس لا نجوم فيه.. واذا كان الضمير الإنساني على هذه الحالة من الضلال فلن يتنفس العالم الصعداء، ولن يعدل ميزان الحق كذلك. وسياسة المجتمع الدولي لا ينبغي أن تكون عبر كتاب ميكافيلي (الأمير) ولا عبر نوافذ مدينة أفلاطون الفاضلة.. بل أن تكون منبثقة من تعاليم الأديان السماوية التي أنزلت من عند خبير عليم علمه ببواطن الأمور كعلمه بظواهرها، وعلمه بليلها كعلمه بنهارها على حد سواء. إذاً لن تنعدم مشاكل المجتمع الدولي على مختلف صعدها إلا إذا أخذنا بتعاليم هذه الأديان، وما من مشكلة إلا وأخذتها هذه التعاليم السماوية بقرنيها فهدتها إلى سواء السبيل. ولا أعلم أن هناك شيئاً غير تعاليم هذه الأديان التي بها صلاح المجتمع فهي تُنصف المظلوم وتردع الظالم وتطعم الجائع وتحرر الأسير. فوحي الله الطاهر يزخر بالنصوص الشرعية التي هي كفيلة بإصلاح سفينة المجتمع البشري، ولعل من أبرز تلك النصوص قول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.. إذاً فإن الله لم يخلق البشر ليتصارعوا قويهم يأخذ حق ضعيفهم بل خلقهم الله ليتعارفوا فالقوي يعرف حاجة الضعيف والغني يعرف فاقة الفقير.. هذا هو التعارف الذي قصده الله تعالى في هذا البيان. إن هذا النص الشرعي أعلاه قد جسد علم الاقتصاد في أسمى معانيه، وعلم السياسة في أقصى مضامينها وكذلك علم الاجتماع والأعراق. وهذا النص الربّاني لا أحد يستطيع أن ينفذ إليه ببنت شفه، فهو نص جامع مانع لجميع ما تحتاجه البشرية حتى تُفضي إلى ساحة السعادة. إذاً يجب على البشرية أن تُنطق هذا النص في جميع المحافل الدولية انطاقاً في القول والفعل ليرقى إلى مراد الله منه. وإن ضميراً واحداً حياً يعادل ألفاً من البشر الميتة ضمائرهم، فالنفس الطاهرة ميّالة إلى أخذ المعول لتزرع الخير، والنفس المريضة ميالة إلى أن تقتلع ما زرعته النفالطاهرة.. لكن شتان بين نفس طاهرة تتلقى العون والسداد من الله وبين نفس مريضة تتلقى العون من الشيطان، والشيطان مهزوم في كل الأحوال أمام الله. وسعادة البشر لا تكمل في الملذات الجسدية بقدر ما تكمن في روح نقية طاهرة. إذ ليس من المفضل في الأعراف الاجتماعية الصحيحة أن يصل البشر إلى كل ما يرغبون، ولكن من المفضل أن توجد قناعة تحد من هذه الشهوة.. والقناعة دائماً تنتصر على كل هلع وطمع نفسي لا حد له. وبالمناسبة ليس من المعقول طالما أننا بشر من صفاتهم النقص أن ينعدم الظلم بيننا!.. ولكن يجب أن يكون هناك حق يصارع كل ظلم جامح.. ولولا وجود الظلم أحياناً لما تذوقنا حلاوة العدل. وهناك هوة واسعة بين مكائد (ميكافيلي) في كتابه الأمير، وبين مدينة أفلاطون الفاضلة.. فميكافيلي يحاول زرع نزعات الشر عند البشر، بينما أفلاطون ذهب بخياله الخصب معتقداً أن الخير في الناس، وإن الذي يقف على أطراف هذين المبدأين المتناقضين لن يفلح.. ولكن تعاليم الله التي لا تنكر أن للبشر نزعات وهفوات فإنها تعرف أنه بنهج الله القويم يُقضى على هذه النزعات. كما أن تعاليم الأديان تقول لنا أن وجود الشر هو الاستثناء وأن وجود الخير بين البشر هو القاعدة.. قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.. فإن كان للباطل جولة فإن للحق جولات.. وأي منظمة إقليمية أو عالمية مهما كانت ديباجتها لن تكون مثل ضمير إنساني حي.
إن الضمير الإنساني الحي لا يقف دائماً في صف معركة الباطل لعلمه الأكيد أنه خسران في هذه المعركة طالما أن الله تعالى هو الذي يقف في الصف الآخر من المعركة.. لقد استوحيت أفكار هذا المقال من رؤية مولاي خادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -توجه الله بلباس الصحة والعافية- الذي ما فتئ في الآفاق مردداً قوله يجب أن يعيش العالم بأسره متفيئاً كلمة الله التي هي ستر عن هاجرة الضلال ودفء من زمهرير التشرذم.. فكلمة الله التي ينشدها الجميع هي أفق رحب وملبس فضفاض لا عبودية فيه ولا قهر.