ليس غريباً ولا جديداً أن تحتفل مصر بـ(انتصارات) حرب أكتوبر 73 م، التي قادت فيها العرب.. بمشرقهم ومغربهم وخليجهم.. إلى أول انتصار عربي حاسم ضد دولة التآمر والاغتصاب والعدوان (إسرائيل)، والذي لولا نجدة (هنري كيسنجر) - مستشار الرئيس نيكسون للأمن القومي ووزير خارجيته - اليهودي الديانة والأمريكي الجنسية -.. في كفكفة دموع إسرائيل وأحزانها..
..بأسطول الأسلحة والمعدات والخبرات الأمريكية الذي كان يفرِّغ حمولته رأساً في أرض المعركة.. لما تماسكت أمام صدمة انهيار خط دفاعها الحصين، المتباهى به وبقوة نيرانه (خط بارليف) وهي ترى جنودها.. وهم يخرجون من تحت أنقاضه رافعي الأيدي وهم يحملون رايات استسلامهم البيضاء.. بل ولما عادلت هزيمتها بـ(ثغرة الدفرسوار) - فيما بعد - بفضل أقمار التجسس الأمريكية..!!
نعم.. ليس غريباً، ولا جديداً هذا الاحتفال بـ(ذكرى النصر)، فتلك هي عادة مصر الحضارية، التي تمتد لآلاف السنين.. منذ أن كان قدماء المصريين يحتفلون بـ(وفاء النيل) في فيضانه وبـ(عروس النيل).. وهي تلقي بنفسها وشبابها وجمالها.. بين أمواجه فداءً وتضحية، وامتناناً له.. لأنه واهب الحياة والنماء للوادي وأبنائه، والتي قال عنها شوقي:
(ألقت إليك بنفسها ونفيسها..
وأتت شيقة حواها شيقُ
خلعت عليك حياءها وحياتها..
أأعز من هذين شيء ينفقُ
وإذا تناهى الحب واتفق الفدى..
فالروح في باب الضحية أليقُ)..
إلى أن أصبح الاحتفال بـ(تاريخ) مصر وأحداثه ورموزه صفحة أصيلة مشرقة من صفحات حضارة مصر.. ربما تنفرد بها عن كثير من الأوطان، فمصريو العصر الحديث لا يحتفلون بـ(وفاء النيل) و(عروسه) وحدهما لكنهم يحتفلون - أيضاً - بـ(عرابي) وثورته في 1882م.. وبـ(سعد زغلول) وثورته في 1919م.. وبـ(عبدالناصر) وثورته في يوليو 1952م.. وبـ(الجلاء) وعيده في 54م.. وببناء (السد العالي) عام 1960م.. وبـ(نصر) أكتوبر عام 73م وبأعياد العمال والفلاحين كل عام.. بل وبالرموز المصرية في العلوم والفلسفة والآداب والموسيقى والغناء: من علي مبارك وطه حسين إلى الدكتور هيكل إلى طلعت حرب والدكتور زويل ومجدي يعقوب إلى نجيب محفوظ.. إلى سيد درويش وأضرابه من أساطين الفن والموسيقى والغناء.. حتى غدت تلك الاحتفالات علامة فارقة في حياة مصر وحضارتها.
* * *
لكن اللافت في احتفالات الذكرى (الواحدة والأربعين) - وليس الثانية أو الثالثة أو حتى العاشرة - بانتصارات أكتوبر هذا العام.. هو امتدادها لستة أيام مع تزامنها مع عيد الأضحى المبارك، الذي يعتبره المصريون عيد أعيادهم.. بل ويسمونه بـ(العيد الكبير)، لأنه عيد الذهاب إلى الأراضي المقدسة.. والوقوف بـ(جبل الرحمة)، وزيارة الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم.. التي لا يعادلها عند المصريين معادل، فهي تساوي الدنيا وما فيها.. إلا أن احتفالات الذكرى.. كادت تطغى عليها أو تغطيها، بعد أن حشدت القيادة المصرية كل جهودها وطاقاتها لإبرازها على نحو غير مسبوق.. وكأنها تريد أن تقول بتلك الاحتفالات التي تنوعت فعالياتها.. وتعددت مشاهدها من (العسكري) إلى (السياسي) إلى (الفني): إن هذه.. هي مصر (الجديدة).. مصر ثورتي الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيه، العائدة إلى دورها الوطني وحضورها العربي.. بعد خمول شهور حكم المجلس العسكري الأعلى الثمانية عشر، ودوامات الاثني عشر شهراً من حكم (الإخوان)، الذي غابت فيه مصر الوسطية والاعتدال والحضارة والثقافة والفنون والآداب.. حتى لم يعد أحد يعرف: من هي مصر وأين هي.. مصر؟ إن كانت عمرية.. أو أموية.. أو أممية تجري وراء أوهام (خلافة): تبيعها.. ولا تُطال..!!
ولذلك.. حفلت احتفالات الذكرى بانتصارات أكتوبر بمشاهدها وتفاصيلها.. باستعراضاتها العسكرية على الأرض وفي سماء مصر.. بالكثير من الرسائل إلى (المصريين) في داخل الوطن وخارجه وإلى العالم أجمع: (المبارك) لعودتها الوطنية وصحوتها العربية.. و(المعارض) لها من الباكين على اغتيال (الديمقراطية) والمتوجسين من حكم الانقلابيين، الذين جاءوا إلى حكم مصر.. بعد (دستور) توافقت عليه الأمة.. و(استفتاء) جرى - عليه -تحت أعين المؤيدين والناقمين على (مصر الجديدة).. وانتخابات رئاسية نزيهة لم تعرفها كثير من ديمقراطيات العالم..؟!
* * *
كانت الرسائل الأولى.. لشعب مصر في داخل الوطن وخارجه: هذه هي (مصركم) تعود إليكم. هذه هي (مصركم) التي أحببتموها وعشقتم ترابها ونيلها.. منازلها وغيطانها وضحيتم من أجلها بالغالي والرخيص.. تنبئكم بعودتها. هذه هي (مصركم) التي قاتلتم من أجلها طوال سبعين سنة جيوش الاحتلال البريطاني: بـ(بلوكات) نظامه في ميدان - الإسماعيلية سابقاً - (التحرير) حالياً وبـ(الآلاف) من جنوده على طول مدن القناة، وبـ(مندوبيه الساميين) في كل الوزارات.. إلى أن تم (الجلاء) وحمل المستعمر عصاه ورحل، وكما قال الزعيم والراحل الكبير (عبدالناصر)، وأنشد شاعر الشباب (أحمد رامي) في استقباله: ( يا مصر إن الحق جاء/ فاستقبلي فجر الرجاء/ اليوم.. قد تم الجلاء/ ونلت يا مصر.. غايات المنى). هذه (مصركم).. مصر الحرية والوطنية.. مصر (الدين لله والوطن للجميع).. مصر الثقافة والمعارف.. مصر الفنون والسياحة والآثار تطل عليكم - بعد ثلاثين شهراً - مع فجر الذكرى الواحدة والأربعين ليوم نصر أكتوبر المجيد والخالد في الوجدان.
وكانت الرسائل (الثانية) لـ (الجماعة)، التي انكشف غطاؤها من قبل.. وسقط عنها جلباب الورع والتقوى الذي كانت ترتديه، لتظهر من تحته المسدسات والقنابل والمفرقعات.. بل والخيانة والمؤامرات: لضرب أمن مصر الوطني بترويع وقتل أبنائها من المدنيين والعسكريين، ولهدم استقرارها السياسي أمام العالم.. حتى يفقد ثقته بها، فلا يصيخ لها سمعاً ولا يمكنها من (ذمة) تتعاطى بها مع الآخرين، ثم أخذت مع اقتراب مناسبتي: (عيد الأضحى) و(ذكرى نصر أكتوبر).. تهدد وتتوعد بإفساد المناسبتين السعيدتين.. وتحويلهما إلى محزنة يبكي فيها الشيخ والرضيع.. بقنبلة في حاوية (زبالة) وأخرى تحت قضبان قطار وثالثة تحت مقعد في حافلة نقل عام.. وكما هي عادتهم أو خساستهم، إلا أن مشاهد وأيام الاحتفالين.. جرتا رخاء في بهجة وسعادة بعُد عهد المصريين بها دون حوادث عنف أو شغب تذكر.. لتكون رسالة الاحتفالات بذكرى النصر ملموسة أكثر منها مقروءة، فقد قالت لـ (الجماعة) إن الذين خرجوا يوم الثلاثين من يونيه هم أكبر من تضليل الجماعة.. وأوعى بمصالح وطنهم ومصالحهم، وهم وإن كانوا مؤمنين بالله ورسالة محمد بن عبدالله أو عيسى بن مريم.. إلا أنهم كحال المؤمن دائماً (لا يلدغ من جحر مرتين)، وقد لدغوا من جحر (الإخوان) طوال ذلك العام الأسود، فلم ينخرطوا في خلية.. ولم يطيعوا أميراً من أمراء الجماعة.. بل احتوتهم ميادين القاهرة وحدائقها وضفافها بهجة وفرحاً بالمناسبتين.. بالعيدين: عيد الأضحى المبارك وعيد ذكرى نصر أكتوبر.
أما رسالة الاحتفالات الثالثة.. فقد كانت لـ (العالم) الخارجي، وفي مقدمته المجتمع اليوروأمريكي، الذي التبس عليه ما كان يحدث في مصر عند بداياته - إن أحسنا الظن -.. إلا أن التجمع اليوروأمريكي.. دخل مع (الجماعة) في مؤامرة تسهيل انتزاعها من عروبتها والإلقاء بها في أممية ينادي شعارها الأكبر بـ(عودة) الخلافة الإسلامية، وعلى العقلاء.. أن يصدقوا بأن الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تسعيان لـ (عودة) الخلافة الإسلامية!!
لتقول لهم رسالة الاحتفالات: هذه هي مصر التي قلقتم عليها وعلى ديمقراطيتها وتوجستم خيفة من حكم (المعسكر) لها.. تأتيكم عبر دستور وطني، وانتخابات حرة.. أشرفتم عليها - عبر مؤسسات مجتمعكم المدني - بأكثر من إشرافكم على انتخابات بوش الابن.. مثلاً، الذي وصل إلى مكتب زعامة العالم الديمقراطي الحر (المكتب البيضاوي).. بإعادة (عَدْ) أصوات الناخبين الأمريكيين بـ(اليد) في ولاية (فلوريدا) التي يحكمها شقيقه.. لأن (الكمبيوترات) أخطأت في عدها!! ليشارك رئيسها (عبدالفتاح السيسي) في أعمال مؤتمر المناخ الدولي.. وليتحدث إلى منظمة الأمم المتحدة مطالباً بمواجهة الإرهاب، وتحقيق حل الدولتين بين الإسرائيليين والفلسطينيين - الذي طالبتهم به، وهو يعد العدة لاستقبال مؤتمر المانحين في القاهرة لـ(إعمار غزة)..!
* * *
لقد كانت الاحتفالات بالذكرى الواحدة والأربعين لنصر أكتوبر.. رائعة رغم طولها، إلا أنها نسيت نجمين من نجوم أكتوبر.. هما: الفريق سعد الدين الشاذلي.. مهندس النصر الحقيقي في عام 73م، واللواء سعد مأمون.. الذي لم تتحمل عسكريته ووطنيته الأنباء الأولى لثغرة الديفريسوار.. فسقط بنوبة قلبية لم ينج منها حتى توفاه الله. رحمهما الله.. جزاء ما أسدياه لمصر وما قدماه لأمتهما العربية، وأسكنهما فسيح جناته.