طالبُ العلم إلى أن ينتهي أجله في هذه الحياة الدنيا (ما دام مُمَتَّعاً بحواسِّه ومواهبه) في تجدُّدٍ دائماً: إما بِذِكْره ما نَسِيَه، وإما بازدياد كسْبه العلمي؛ وذلك يَحْتاجه ما فرغَ من تأليفه: بزيادة إيضاح، أو شواهد، أو بتقوية الاستدلال ببراهين أُخرى، أو بِمَحْق الباطل والخطإ والاعتراضات ببراهين دَحْضٍ
استجدَّتْ ربما كانت أقوى وأظهر، وإما باستدراكٍ أفضلَ يجعل الصياغةَ أوضح وأجمل؛ وهذا يُحقِّق صدقَ مقولة (من ادَّعى أنه عالم فقد جهل).. وعليه أن يحقِّق الاعتقاد الصحيح بأن أمْثل أهل الحرفة القلمية مَن استقرَّ في قلبه أنه (لا يزال طالب علم) وإن عُمِّرَ عُمْرَ نوح عليه السلام.. ولا ريب أن (مَنْ أَلَّف فقد استُهْدِف) بصيغة ما لم يُسَمَّ فاعلُه.. ويجوز (استهدَف) بصيغة الفِعْلِ المُتعدِّي إلى غيره؛ لأنها تدلُّ على معنى (جَعَل نفسَه هدفاً).. هذه حقيقة لا ريب فيها، ولكنَّ من يبتغي رضا الله سبحانه وتعالى، ثم مَنْفَعَة عباد الله: لا يكون جباناً مُدَاهِناً؛ لينعم بعقلٍ معيشي.. ولا يكون غيرَ مبالٍ؛ فينفِّر الناسَ -والمسلم مُسْتَأْلِفٌ لا مُنَفِّر-؛ بل يُحْسنُ المُعادلة؛ فيحذر من تضييع مصلحةٍ كبرى بتحقيق مصلحة صُغرى، أو جَلْبِ مفسدةٍ كبرى بدفع مفسدة صغرى.. بل يكون شاكراً ما عليه الحال من تحقُّق المصلحة الكبرى، وزوال المفسدة الكبرى؛ وههنا يكون ذا أسلوب لطيف ودود بِبَسْطِ يَدِ الرجاء والاسترحام والتعاون بالعمل الخيِّر بكسر الحواجز عن إضاعةِ المصلحة الصغرى، وبمنع الدوافع إلى جلب مفسدة صغرى.. وعليه أن يتعامل مع العامة وغير ذوي الاختصاص بالبيان السهل المُبسَّط، ويخاطب القلبَ بوعظٍ فكري؛ فإن واجهه العاميُّ أو غيرُ ذي الاختصاص بخلط الأوراق، وترجَّح له أن إعادة الكرة بالبيان والإيضاح لن تُجْدي: فليترَّفع عن مجادلته، وليقل ما مدح الله به مؤمني أهل الكتاب:{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (55) سورة القصص؛ وبهذا لايكون مُغَلَّباً؛ فقد أُثِر عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: «ما ناظرتُ جاهلاً إلا غلبني» ولا أدري أين قرأت ذلك، ووجه الغلبة في ذلك: أن الشافعي (لو طاوعه الجاهلُ) سيحتاج إلى سنين يُعلِّمه أو يُحِيلُه إلى عالم يتتلمذ عليه؛ حتى يُحْسِن تلقِّي براهين العلم من أصوله بفكرٍ مدرَّب، وبغير ذلك فسيظل الجهول في جدله يخلط ويملط ويتجمهر معه أمثاله مِمَّن يخلطون الأوراق؛ فلا حيلة له إلا قطع باب المناقشة، وأن يدعو لهم بالهداية؛ فانقطاعه عن الحوار هو معنى أنه مغلوب من غير ذي أهلية.
قال أبو عبدالرحمن: وعلى مَن أسلفتُ شأنه مِمَّن يبتغي رضا الله ثم منفعة عباده: أن يُحَرِّر علمه (بعد التقصِّي، وطول التفكُّر في مادة العلم وَفْق أصوله وقواعده وكُلِّيَّاته) بوضوحٍ وتقسيمٍ، وأمثلة شارحة، واستدلالٍ قويٍّ، ودفعٍ ومنعٍ بإنصاف.. فإن عارضه معارض من أهل العلم، أو كان هو معارضاً غيره من أهل العلم: فلا يبخس شيئاً من حق الإنصاف الواجب عليه، ولا يتنازل عن شيئ من حقِّه في الانتصاف؛ لأن إزالة الغِشاوة عن العلوم والمعارف لا تكون إلا بهذه الثنائية؛ ولأنه لا مُسامحةَ في بيان الحق والباطل؛ فإن عُورض بحقٍّ شكر لمعارِضه صنيعَه، ورجع إلى الحقِّ فوراً أو إلى بعض ما فيه من حق.. وإن عُوْرِض بِشُبْهَة، أو بما هو خارجُ محلِّ النزاع: بَيَّن ذلك بِرِفْق وتبسيط؛ فإن لم يجد بعد ذلك إلا العناد والعصبية فَلْيَحْتَدَّ عليه توبيخاً وتجهيلاً، وينصرف عن مناظرته في صُلْب الموضوع الذي انقطع فيه المعارِضُ بالعناد أو العصبية، ويَسْدِلُ الستار عليه بعد ذلك، وللإمام الشافعي رحمه الله تعالى كلمتان نفيستان ههنا -وما أكثر نفائسه-: الأولى قوله: «مِن إهانة العلم أن تُناظِر كلَّ من ناظرك، وتقاوِل كل من قاولك «[مناقب الإمام الشافعي لمحمد بن عمر الرازي [- 606هـ] رحمه الله تعالى ص 342/ مكتبة الكليات الأزهرية بمصر/ الطبعة الأولى عام 1406هـ]، وهو رحمه الله من أهل المناظرة؛ فقوله هذا محمول على حالة انقطاع المعارِض بالعناد أو الحمية؛ ووجهُ إهانة العلم ههنا أن تجعله سخريةً لدى غير مؤهَّل للسخرية (ومن السخرية ما هو انتصاف مشروع)؛ وهو الذي حُرِم نعمة الإنصاف، أو حُرِم نعمة التواضع في اعترافه بغياب شاهد العلم؛ فاستكبر على تَلَقِّيه؛ ويُبَيِّن ذلك كلمةٌ أخرى للشافعي رحمه الله تعالى، وهي قوله: «العلم جهل عند أهل الجهل، كما أن الجهل جهل عند أهل العلم.. كفى بالعلم فضيلةً أن يَدَّعِيَهُ من ليس فيه، ويفرح إذا نُسِبَ إليه.. ويكفي بالجهل شرَّاً أن يتبرَّأ منه مَن هو فيه، ويغضب إذا نُسِبَ إليه «[المصدر السابق ص 342].. والكلمة النفيسة الثانية قول الشافعي: «رياضةُ ابن آدم أشدُّ مِن رياضة الدواب» [الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء لأبي عمر يوسف ابن عبدالبر [368ــ463 هـ] بتحقيق شيخي عبدالفتاح أبو غدة -رحمهما الله تعالى- ص 157 دار البشائر الإسلامية طبعتهم الأولى عام 1417هـ]، ومن الدواب الحمار تَدْفعُه إلى الأمامفيرجع إليك ليغرس حافره في رجلك.. وذو الحرفة القلمية المُعْتَدُّ به مَن كان ذا أمانة صادقة يُبلورها ويجلوها بالتَّتبع والاختبار؛ وتلك الأمانةُ هي الصِّدق مع النفس؛ فلا يقول أو يكتب خلافَ ما يعتقد؛ فإن كان عليه حرج لا يُطيقُه فليصمت.. وهذه الأمانة هي أمانة الصدق في تحصيل العلم في المسألة بتقَصِّيه بحضور فكرٍ وَفْق النظرية العامة للمعرفة والعلم، والنظرية الخاصة لذلك الحقل العلمي.. وأكبر خلل أن تتناقض أقواله؛ فإن ظهر له الحق خلافَ مسألة ألَّف فيها فلْيُعْلِنْ تراجُعَه؛ كي لا يُحكم عليه بالتناقض.. وما دام أميناً مع النظريتين فلا يتغابى ويتكاسل مع مقولة باطلة جرت مجرى المثل: «ما ترك الأول للآخر شيئاً»، وقد مَرَّ في قراءاتي بكتب الجاحظ قوله عن مُعْتقِد ذلك: إنه لا يريد أن يُفلح!!.. وعكس ذلك أيضاً أنْ لا يعتقد أن الحق وبلوغ الغاية عند المُتأخِّر، بل هناك مُعادَلة كريمة هي الوسطُ؛ فما كان كيانياً معصوماً (وهو دين ربنا) فيتطوَّر طالبُ العلم معه ولا يملك تطويره؛ بل يَتَلَقَّاه وَفْق مُراد منزِّله خالقِ الإنسانِ بعقله ومواهبه بمقتَضى نظرية المعرفة والعلم البشري العام، وأصول النظرية للعلم الشرعي، وهو لن يحتاج مِن مِيزةِ ما استجدَّ من العلم الدنيوي إلا إلى كشف الواقعةِ المُسْتجِدَّة؛ ليفهمها كما هي، ويُجري عليها ما ينطبق عليها من الحكم الشرعي.. وأما حقيقةُ الدين طلباً وخبراً فلا يُؤْتَمَنُ على تَلَقِّيها إلا مَن يؤمن بدين ربه باللغة العربية التي خاطبنا الله بها وقت نزول الشرع، ويرفض دلالات البُنيوية ومُشْتَقَّاتها غير المعهودة وقت التنزيل، وتكون له ثقافة مُستأنَفَة فيما يستجدُّ من الدلالات الوضعية الحديثة بشرط نظرية العلم البشري، وقابلية التأصيل من نظرية العلم اللغوي.. ومن ضرورات كياننا المعصوم نفورُ أهل العلم في تخصُّصاتهم بتزييف الدعاوى على تاريخنا وأعلام أُمَّتنا الذين أَوْرَثونا بعد الله الرقعةَ الإسلامية والعربية، ودفْعِ الافتراء على اللغة في عُمْق ثبوتها ودلالتها؛ لأنها السبيل إلى فهم دين ربنا.. والوعي بالمتغيِّرات التاريخية العالمية؛ لننفذ من أغوارها إلى تكوين عقيدة ذات إرادة عازمة تُعِيدُ (ولو على المدى البعيد) الرقعة العربية والإسلامية إلى الهُوِيَّة التي جعلتها بلادَ أُمَّةٍ واحدة؛ وههنا تكون اليقظة من مكايد التعدُّدية والدخيل.. ومن ضرورات كياننا التمسُّكُ بالحق التاريخبعد أن مُزِّقت الرقعة بالحدود السودِ، ولا تزال عملية التجزئة على قدمٍ وساق من جَرَّاء التشرذم والتمزق في الأمة نفسها، والله المستعان، وعليه الاتكال.