شهد المجتمع الغربي في أعقاب الحرب العظمى الثانية عهدًا من الرخاء والوفرة، تحوَّل فيه الاستهلاك إلى فلسفة وأسلوب حياة سائد، بل إن أحد مفكري ذلك الوقت، ويُدْعى: «فيكتور ليبور» دعا الأمريكيين إلى أن يتخذوا من الاستهلاك وسيلة لخلاص الروح وتحقيق الذات.
ووجدت تلك الدعوة استجابة واسعة، بل إنها تعدت حدود الولايات المتحدة الأمريكية إلى عدد من مجتمعات الدول الصناعية، فأصبح الاستهلاك صبغة للحياة فيها، وتسللت القيم التي أفرزها تزحزح القيم الاجتماعية التقليدية الراسخة في تلك المجتمعات.
بل إن اليابانيين استبدلوا بعض قِيَمِهم الموروثة بقِيَم استهلاكية جديدة، فأصبحت بنود الحكمة الثلاثة لديهم هي: التلفاز الملون، وجهاز تكييف الهواء، والسيارة.
لقد جاءت الاستجابة من الأغنياء الذين تزايد عددهم، فقد أصبح الفرد من الطبقة الوسطى أغنى من جدِّه الذي عاش في مفتتح القرن العشرين بمقدار أربع مرات ونصف، وهكذا صار يعيش في نفس العالم، بليون إنسان في رغد ورفاهية، وبليون آخر عند حد العوز.
يقول الدكتور رجب سعد السيد في كتابه «أجراس الخطر»: لقد وصل مصروف الجيب للطفل الأمريكي الواحد إلى 230 دولارًا سنويًّا، وهو مبلغ يفوق الدخل السنوي للفرد بين نصف بليون من فقراء العالم.
ولقد كانت لهذه الموجة الضاربة من السلوك الاستهلاكي تبعاتها على البيئة، فقد جارت على الموارد الطبيعية؛ من غابات وتربة، وماء وهواء، وأساءت إلى المناخ العام للأرض.
وقد شهد العالم طفرة هائلة في التقدم التقني، وارتفاع الدخل الفردي، ورخص المواد الخام، وانخفاض أسعار المنتجات، وأدى ذلك إلى ارتفاع مذهل في مستوى الاستهلاك تؤكِّده الإحصائيات.
فمنذ منتصف هذا القرن تضاعف متوسط الاستهلاك العالمي للفرد الواحد من النحاس والطاقة، واللحوم والصلب والخشب مرة واحدة، بينما تضاعف متوسط استهلاك الأسمنت كما تضاعف عدد مالكي السيارات أربع مرات، وتضاعف استهلاك البلاستيك خمس مرات، والألومنيوم سبع مرات.
وبصفة عامة، فإن الأمم الصناعية تستهلك ثلثي صلب العالم، وأكثرمن ثلثي إنتاج الألومنيوم العالمي، وكذلك الحال بالنسبة للنحاس والرصاص والنيكل، والقصدير والزنك، وأربعة أخماس الطاقة.
ومنذ عام 1950م، استهلك سكان العالم من السلع والخِدْمات ما يُعادل ما استخدمه البشر منذ فجر التاريخ الإنساني.
وقد وصلت عدوى الاستهلاك إلى بعض المجتمعات الفقيرة.
وإذا افترضنا أن تعداد المستهلكين المسرفين بليون واحد من سكان العالم، فإن ذلك يمثل عبئًا شديدًا على الأرض، فبين هؤلاء البليون مستهلك مسرف يوجد أغنى خمس تعداد البشر، ويسيطر هذا الخمس الأغنى على 99% من الرؤوس النووية الحربية.
إن إسراف هؤلاء المستهلكين من سكان الأرض في مادة طبيعية؛ مثل: الخشب، يتضمن حفزًا إلى اقتطاع مزيد من أشجار الغابات.
ولا ينبغي أن يفوتنا أنَّ لكل نشاط اقتصادي أعباءه البيئية التي تثقل أو تخف بتأثير ثلاثة عوامل؛ حجم التجمع البشري المستفيد من هذا النشاط، ومتوسط الاستهلاك، ودرجة تقدم التقنية المستخدمة؛ لتوفير الاحتياجات والخِدْمات لأفراد التجمع البشري.
يقول ألن شين في كتابه How Much is enough: الجدير بالملاحظة أن المجتمع الأمريكي يتقدم السباق في ثلاثة أنواع من السلوك الاستهلاكي؛ النقل، والمواصلات، والغذاء والمواد الخام.
وتبدو صورة السباق في النوع الأول، وعند قاعها بليون إنسان من سكان العالم لا يعرفون من وسائل المواصلات سوى أقدامهم.
تقول بعض الإحصاءات؛ إن 20% من الأُسَر في أمريكا تمتلك ثلاث سيارات أو أكثر، وإن 9% من السيارات الحديثة مكيفة الهواء، وهذا يَعني عِبئًا إضافيًّا على حساب استقرار المناخ العالمي.
وحسب إحصاءات أخرى للبنك الدولي تبين أن ثَمَّة 360 مليون إنسان يأكلون طعامًا غير صحي، وثمة تعقيدات بيئية غير ظاهرة مرتبطة برفاهية الغذاء في العالم المتقدم؛ إذ ينتقل الكثير من أنواع الطعام المتميز على حساب الطاقة المستمدة من الوقود الأحفوري.
وثمة بليون إنسان معدم يعيشون خارج المدن، ويعتمدون في حياتهم على الخامات المحلية في بيئاتهم الفقيرة، فلا يزيد استهلاكهم اليومي عن نصف كيلو جرام من الحبوب، وكيلو جرام من خشب الوقود.
وبصفة عامة، فإن ربع سكان العالم الذين يعيشون في الدول الصناعية الكبرى يزيد استهلاكهم في بعض المواد الأولية عن استهلاك دول العالم الثالث كما يلي: في الورق 15 مرة، وفي الصلب 10 مرات، وفي الوقود 12 مرة.
ويرتبط السلوك الاستهلاكي في مجتمعات الوفرة بما يمكن أن يُسمَّى بالإهدار Throwaway؛ حيث أصبحت عمليات التعبئة والتغليف صناعة ضخمة، كما تزايد الاعتماد على السلع التي تستخدم لمرة واحدة، ثم تهدر أو تهمل.
هكذا يجري الاستهلاك في عالمنا، ويجرُّ وراءه الأمراض التي تصيب البيئة وأجسام المستهلكين أنفسهم، ونحن لا ندين كل مجتمعات الوفرة، أو بمعنًى آخرَ أفرادَها؛ فثمة من يملكون القدرة على الاختيار المناسب من أجل حياة بسيطة خالية من المتاعب الصحية والبيئية، وإن كانوا يمثلون القِلَّة.
وهنا يرد سؤال مهم: ما الذي يدفع الكثير إلى الاستهلاك بشراهة؟!
هل لأن البشر بطبعهم لا يقنعون بما لديهم كما أكد أرسطو أن جشع الإنسان لا يرتوي؟ أو أن السبب يرجع إلى أن الأحفاد أغنى من الأجداد؟
والإجابة عن كل من السؤالين: بنعم، لا يجب أن تجعلنا نغفل حقيقة وجود قوى أخرى دافعة إلى تنشيط الرغبة في الاستهلاك، بصورة غير مسبوقة.
لقد تضاءلت قيمة الفضائل، مثل: الاستقامة، والإتقان، وتراجعت كمعيار للمكانة الاجتماعية؛ ليحل محلها جميعًا مؤشر واحد يحترمه الجميع هو المال.
وللأسف، فقد أثبتت استقصاءات عدة أن الاتجاه الاستهلاكي غير قادر على إشباع كل حاجات الإنسان، فالسعادة مثلاً: تأتي مرتبطة بعوامل أخرى أبرزها الحياة الأُسَرية المستقرة، والنجاح في العمل، وراحة البال، والصحة الجيدة والصداقة، فإذا غابت هذه العوامل، لجأ الإنسان إلى الاستهلاك؛ ليضفي على نفسه إحساسًا بالتميز والقدرة.
ولا يجب أن نغفل قوة الإعلان وسحره، فقد أصبحت صناعة الإعلان واحدة من أسرع الصناعات نموًّا.
ومن ثم، فليس غريبًا إذًا تحت تأثير هذا السحر المستمر أن يصبح الشراء ثقافة عامة، ومتعة عند نسبة 96% من الشباب.
وطغى الإعلان حتى على توجهات ربَّات البيوت، وأصبحن يسعينَ إلى الطعام السابق التجهيز، وإلى المنظفات عالية القدرة، وإلى سلع عديدة تجد طريقها إلى وعاء القمامة فورَ الانتهاء من استخدامها، وهكذا تتحول ربة البيت من وحدة اقتصادية أساسية إلى عامل سلبي التأثير على البيئة.
وبعد، فهل يمكننا مواجهة جاذبية السلوك الاستهلاكي وكبح جماحه؟
إن الإجابة عن هذا السؤال بنعم يمكن أن تتحقق إذا التزم المستهلكون بقاعدة ذهبية، تقول: مِن حقِّنا أن نحصل على احتياجاتنا، ولكن ليس على حساب مستقبل أبنائنا وأحفادنا.