اختصت مقالة الاثنين بنشأة أردوجان الأولى والتحاقه بحزب الرفاه ثم انفصاله عنه وتكوينه مع زمرة من السياسيين حزب «العدالة والتنمية» 2001م وترشيحه من قبل الحزب عمدة لمدينة إسطنبول، ثم ترشيحه من قبل الرئيس عبدالله غول ليتولى رئاسة الحكومة، ثم ترشحه لرئاسة الجمهورية، وما قدم لتركيا خلال تلك المراحل من إضافات حضارية قفزت بها إلى المقدمة اقتصادياً وتنموياً.
وتبحث هذه المقالة عن تفسير نفسي أو أيدلوجي أو سيكولوجي للتناقضات المحيرة التي لا تخفى على أي متابع في مواقف أردوجان السياسية؟!..
ولد أردوجان في أسرة فقيرة وبيئة شعبية متواضعة واشتغل في طفولته ببيع حلقات الكعك بالسمسم المعروفة في تركيا باسم «سميت» في حي قاسم باشا في إسطنبول والأحياء المجاورة، ولاشك أن الكدح والعصامية والسعي لطلب العيش متزامناً مع حلقات الدرس في معاهد الأئمة والخطباء قد أكسباه صلابة ومنحاه إصراراً على إثبات الذات واتكاء على أبعاد دينية عميقة يحتمي نفسياً ويلجأ إلى مخزونه العاطفي والروحي منها حينما يحتاج إلى ذلك؛ وهو ما تمثل جلياً في تلك القصيدة من الشعر التركي الحماسي التي ألقاها عام 1998م وسجن بسببها؛ بتهمة التحريض الديني.
يتسم أردوجان عند عارفيه ومن اشتغلوا معه من موظفين إداريين وعند من التقوا به بسمات من يتخرج في بيئة شعبية متواضعة؛ فيكتسب صفات ومفردات رموز تلك البيئة؛ ومنها: الاعتزاز المبالغ بالذات وبنجاحاته التي نقلته بسرعة وبدون طول انتظار إلى سدة القيادة في كل المواقع التي شغلها، سرعة الانفعال وغلبة العاطفة وحرارة وسخونة الردود على الأسئلة أو التخلص من المواقف وتوظيف الحدث للنجومية وكسب تعاطف الجماهير وإشباع غريزة التعويض أو الرغبة في الانتصار على الخصم ولو كان ذلك كله كلاماً؛ كما حدث في مؤتمر «دافوس» والملاسنة الشهيرة بينه وبين بيريز شمعون؛ حيث خرج من الجلسة غاضباً لعدم منحه الوقت الكافي للرد على بيريز، واستقبل في إسطنبول استقبال الفاتحين، وزادت من شعبيته في العالم الإسلامي.
ويتسم سلوكه السياسي بالبراجماتية واتخاذ الملاينة إلى حين ثم نسف الخصم، واللعب بكل الأوراق بين منح ومنع؛ كما حدث مع الأكراد؛ فقد منحهم الكثير كالاعتراف بلغتهم وبعودة أسماء مدنهم وقراهم؛ ولكنه قيدهم باتفاقية تحجزهم عن أية مطالبة بحكم ذاتي أو حمل السلاح أو التحريض على الدولة التركية.
وهو إلى ذلك شغوف بالكارزمية السياسية وبالحضور الإعلامي وبالخوف من اهتزاز كرسي القيادة من تحته؛ ولذلك تتراوح معالجاته بين العنف الشديد، أو الوعد والوعيد, أو عدم الاقتراب من حافة الخطر؛ بل التماس معها من بعيد، وهو ما يفعله الآن مع جملة من الأزمات التي تراكمت وكبرت على حدود بلاده من الجنوب وامتدت آثارها إلى الداخل التركي؛ فاضطربت أكثر من ثلاثين مدينة وقرية احتجاجاً على عدم دخول تركيا في الحرب إلى جانب أكراد «كابوني» ضد داعش.
يتلاعب أردوجان بكل الأوراق التي بين يديه آملا ألا يخسر منها شيئاً؛ بل طامعاً أن يخرج من الحروب التي يزكم غبارها أنوف الأتراك منتصراً دون أن يدخل فيها كطرف مع هذا أو ذاك. فهو يطمح أن يقضي على حلم أكراد سوريا في «كابوني» بإقامة دويلة على حدوده الجنوبية بمساعدة جلية ومدد لا يخفى من بشار لهم؛ فاتخذ من «داعش» مطية لتحقيق هذا الغرض ويسر للتنظيم المتطرف وصول المقاتلين إليه وعلاج مصابيه وتدفق الأموال والإمدادات العسكرية والمؤن (2000) سيارة وانيت كمثال إلى هذه العصابة الإرهابية لتحقق له حلمه ولتمنع عنه أيضاً في المستقبل كما يزعم تمدد النفوذ الإيراني من حوله.
يطيع الحلف الغربي بالأقوال ويعصيه بالأفعال؛ فلكي يشارك مع الحلف يماطل أولاً إلى حين القضاء على أكراد كابوني، ثم يفاوض للقضاء على عدوه الآخر بشار..
سياسته: أقبض ثمن مواقفي أولاً.