حركة حياة الإنسان مبنية على ملذّات تستلزم تحقيقها، فإذا تحققت ونال منها الحظ الوفير من البهجة انتابه الملل منها وأخذ على نفسه عهداً أن يتركها ولا يكررها مرة أخرى، لكنه يعيد الكرة ويأتي بها مرة ثانية كأنما هو لم يعاهد نفسه على تركها. أو أنه يجدّ في البحث على ملذات غيرها جديدة؛ ذلك لأن الحياة عبارة عن ركض وسعي لأجل تحقيق الرغبات، تليها مراحل ملل هي بالنسبة للإنسان وقود لانطلاقة جديدة ورغبات جديدة أيضاً.
من الوارد ملل الشخص من جنسه ومن جنسيته، من الاجتماع ومن الوحدة، من اختلافه ومن اتفاقه. من كون البنت بنتاً ومن كون الولد ولداً، من أنها طالبة ومن أنه موظف. من الطبيعي الملل من هواياتنا: من الكتابة، من الرسم، من الأعمال اليدوية، من اللعب. من الحديث مع الناس، والحديث مع الذات. الملل من الأفكار الشريرة والأفكار البريئة. لكنه الملل رفيق الإنسان مجدد الطاقة باعث الحيوية منشّط الذاكرة والأفكار؛ ذلك لأن الشخص عندما يمل من أسلوب حياة في أداء العمل أو في الطهي أو في نوع الملبس أو المأكل أو التسوق أو التنزه أو الكتابة أو النحت فإنه وبدافع الملل يحاول ابتكار أسلوب حياة أخرى وطريقة مغايرة للأسلوب الذي اعتاده حتى ملّه. لماذا؟ لأن الاعتيادية بحد ذاتها مملة. ومعنى كونها مملة يعني أن نحاول تغييرها، تجديدها، ابتكار غيرها، خلق سواها. الملل يعترينا أيضا من الأشخاص الذين نعتاد رؤيتهم ومشاهدتهم والجلوس إليهم والتحدث معهم، حيث إن الأرض حافلة بملايين الأشخاص بالتالي لا تقتصر على هذا أو هذه حتى نلازمها العمر كله ونسمع منها الكلام جميعه لدرجة الملل ثم الرضوخ إلى الملل والاستسلام له؛ في حين الذين يفترض منا فهم ومعرفة «رسالة» الملل لنا. الملل عندما يحل ضيفاً علينا فإنه لم يأت عبثاً؛ بل أتى يجدد ويغير علاقتنا بأنفسنا وبالناس وبالأمكنة والأشياء من حولنا جميعاً.
الملل ضالة الواعي وهو الملهم بأن هناك وقت فراغ لدينا يحتاج مليء أو هناك مكرر يحتاج أن يتجدد أو يتغير بالتالي من الخطأ محاربة الملل بقدر ما ينبغي علينا استيعابه وفهمه وإدراك فوائده حيث إن كل جديد أو تغيير أو ابتكار يكون بدافع من هذا الشعور. الرومان ابتكروا مصارعة العبيد بينما الإسبان صارعوا الثيران واليونان أتوا بالألعاب الأولمبية بالتالي تنوعت الوسائل الترفيهية. حتى الثورات في التاريخ سببه الملل من حالة ثابتة لا تتغير هبّوا يحركونها بالتغيير والتجديد وربما نرى في المستقبل ما هو أكثر من ذلك.
أما بالنسبة للذي يمل ولا يتغير فهو في الواقع مجرد مدعٍ للملل طالما لم يستفد من صداقة الملل له وعلاقته به.