مضى ما يقارب عشرين سنة من مغادرتي له فكان صباح يوم الاثنين الموافق 27-11-1435هـ موعداً لتجديد الذكريات ست سنوات دراسية قضيتها على أرضه, وبين أسورته, حاملاً لمقرراته, مقلباً لبعض ما حوته مكتبته, مستفيداً من بعض أساتذته!
إنه (المعهد العلمي بحوطة سدير) الذي أنشئ عام 1388هـ وتخرج فيه أجيال وأجيال كان يدير معهدي إبّان دراستي فضيلة شيخنا الفقيه الفرضي فهد بن جاسر الزكري غفر الله له، فنعم الإدارة إدارته, كان مهاب الجانب لا يجرأ الطلاب على المرور من جهة مكتبه فضلا عن الدخول عليه!
لم أدخل عليه إلا مرة واحدة -فيما أذكر- لأحصل على إذن منه في ترك الدروس المتبقية في ذلك اليوم لأختبر فيما يسمى بـ(دلة) لأتمكن من أخذ رخصة القيادة!
دخلتُ المعهد صباح ذلك اليوم بعد مرور سنين لألقي محاضرة علمية في مسرح المعهد الذي كانت تلقى علينا فيه المحاضرات وقت دراستي.
كان من أبرز اللقاءات والمحاضرات التي ألقيتْ علينا محاضرة لشيخنا العلامة القدوة صالح بن فوزان الفوزان غفر الله له وجزاه الله خير الجزاء وأوفاه.
فكان اللقاء به غفر الله له لقاءً أبوياً توجيهياً, وكنت في ذلك الحين بالصف الثاني متوسط وبعد كلمة الشيخ عُرضت عليه أسئلة الحضور ومنها سؤال كتبته - فهو أول سؤال وجهته لسماحته- وكان مضمون السؤال:(ما حكم قراءة من عنده بعض الأخطاء في العقيدة؟ فكان الجواب شافياً حيث وجه الكلام لجميع الطلبة ناصحاً وموجهاً لهم بأن: يقبلوا على طلب العلم وكتب أهل العلم الثقات المشهورين بالسلامة ومن أوثق الكتب: الكتب التي تدرسونها بالمعهد عليكم بها فهي كتب علم ومراجع علمية في فنون مختلفة, هي البناء العلمي الذي تعمرون فوقه وتنطلقون منه... ثم وجّهنا بالاستفادة من الشيخ فهد الزكري قائلا: عليكم بالشيخ فهد الزكري استفيدوا منه اسألوه عما أشكل عليكم.. ودعوا عنكم من به أغلاط أوعنده أخطاء في كتبه أو منهجه).
كان جوابه نبراساً لي في تلك السنوات فجزاه الله عني خيراً.
كنتُ أتخول مكتبة المعهد بالزيارة في وقت التفسح أحياناً، وكنت حينها أقصد كتب التاريخ والسير خاصة كتاب سير أعلام النبلاء, وأقلب مجلداته باحثاً عن اسم من الأعلام يجذبني لسيرته فقرأتُ ما شاء الله من الكتاب ومما أذكره الآن من تلك القراءة: سيرة (زند بن الجون) المشهور بأبي دلامة, الشاعر النديم، صاحب النوادر كما وصفه الذهبي رحمه الله.
وسيرة أبي الغصن دجين بن ثابت المشهور بـ(جحا) وكان من أهل الرواية قال الذهبي:(قال عباد بن صهيب: حدثنا أبو الغصن جحا وما رأيت أعقل منه قال كاتبه: لعله كان يمزح أيام الشبيبة، فلما شاخ، أقبل على شأنه، وأخذ عنه المحدثون).
وسيرة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ولي معها وقفات كثيرة لعلها تكون في مقال خاص, ولا أزال أُشْرك الإمام أحمد في أضحيتي كل سنة مع علماء آخرين رحمهم الله وجزاهم عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء.
وممن قرأت ترجمته في المكتبة: ترجمة إسماعيل بن قاسم بن سويد المعروف بأبي العتاهية, وكان شعره من أجمل الشعر الذي عرفته في ذلك الوقت مع بعض المعلقات الشعرية المعروفة التي بعضها أشبه بالطلاسم علينا حين كنا نحفظها في المعهد, وأفضل المعلقات في نظري معلقة زهير بن أبي سلمى فقد اكتنزت حِكَماً مع ما فيها من بعض الأمور التي لا تخفى على مسلم.
كان أبو العتاهية يغرف من بحر فمن شعره الأرجوزة ذات الأمثال يقال: إنها حوت على ألف مثل وحكمة! قال الذهبي:(وما أصدق قوله:
إن الشباب والفراغ والجدة
مفسدة للمرء أي مفسدة).
ومن شعره:
حسناء لا تبتغي حليا إذا برزت
لأن خالقها بالحسن حلاها
قامت تمشي فليت الله صيرني
ذاك التراب الذي مسته رجلاها
قال الذهبي رحمه الله:(وتحتمل سيرة أبي العتاهية أن تعمل في كراريس... وقد جمع أبو عمر بن عبد البر شعره وأخباره).
وكتاب السير قد حوى بين دفاته بعض التراجم لزنادقة وغيرهم فكيف يكونون نبلاء؟
وقد سئل شيخنا عبدالله الغديان رحمه الله عن هذا, فأجاب بما معناه: بأن لفظ النبيل من ألفاظ الأضداد يحمل المعنى وعكسه, ويطلق النبيل على العاقل والذكي, وهؤلاء الزنادقة ومن شاكلهم لا شك في عقولهم لكن لم تنفعهم لما أعرضوا عن الكتاب والسنة).
ومن الكتب التي كنت أنظر إليها في مكتبة المعهد في ذلك الزمان ولا أجرؤ عليها كتاب تأريخ بغداد.
ولي قصة مع بعض الكتب لعل الله أن يعين على كتابتها إن كان فيها خيراً.
هذه بعض الخواطر والذكريات التي مرت بي, فلما استقرت قدمي بالمعهد سرني التنظيم الجميل والاهتمام الظاهر, وإذا بعض من درسني في طليعة المستقبلين فجزاهم الله خيراً وأحسن إليهم.
ألقيتُ المحاضرة وذكرتُ لطلاب المعهد بأني شرفتُ بالتخرج فيه والتعلم من مقرراته.
وبعد الانتهاء من المحاضرة خرجتُ من المعهد وأنا أنظر إليه! هل يمكن أن آتي إليه في مناسبة قريبة؟ هذا ما أرجوه.