صدرت عن (دار المفردات) للنشر والتوزيع بالرياض رواية حملت عنوان (ظل مدينة) للكاتبة السعودية - الجوهرة السلولي.
وقد تناولت خلالها كاتبتها قصة مجتمع قروي أنشأ أهله في العصر الحديث مساكنهم من حيث لا يعلمون على مدينة أثرية عريقة وقديمة يصفها علماء الآثار بأنها فائقة الروعة والجمال في مبانيها الفخمة ذات المعمار الهندسي الباهر المنقطع النظير،
مما جعل بعضهم يعتقدون بأنها مدينة (إرم) الشهيرة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، وفي كثير من مؤلفات الآثاريين والمؤرخين القدامى.
هناك ثلاثة عوالم أساسية في هذه الرواية تتقاسم فيما بينها أرضية مشتركة في صنع الحدث السردي على أرض الواقع، وتحريك شخصياته وأدوارها المؤثرة فيه في آن واحد، وإن اختلفت هذه العوالم نفسها فيما بينها من حيث بيئتها وزمانها ومكانها، ومن حيث سلوك شخصياتها وتصرفاتها المتضاربة التي توقع القارئ في أحيان كثيرة بشرك الشعور بالتناقض بين هذه العوالم والعناصر المكوّنة لكل منها، واختلاف مادتها وطبيعتها وصفاتها الخلقية وبيئتها عن بعضها البعض.
وهذه العوالم هي:
- قرية (رم): المسرح الرئيسي الحقيقي لدوران الحدث السردي في الرواية.
- المدينة: بمعناها الحضاري الحديث المعاكس لحياة الريف والقرى، والتي ظلت طوال صفحات الرواية حاضرة باسمها فقط، ولكنها غائبة في كيانها أو وجودها وفاعليتها في النص وعلى أرض الواقع المعاش.
- عالم (مدينة إرم): تلك المدينة الأثرية الشهيرة المدفونة منذ آلاف السنين تحت الأرض، والتي أقيمت عليها القرية المذكورة في الوقت الحاضر بالمصادفة، دون أن يعلم الأهالي أو السكان، أنّ قريتهم تربض على كنز تاريخي أثري عريق وقيّم جداً، أو هذا ما كانوا يعتقدونه على الأقل. ولعل هذا العالم يحيل ذاكرتنا مجدداً لاسم الرواية (ظل مدينة) لنستوحي منه ما يجعلنا نقارن بين (الظل) كوهم، وبين (المدينة) كحقيقة.
وتتطرق الكاتبة أثناء سردها لقصة هذه القرية وسكانها بشكل تفصيلي ومتسلسل زماناً ومكاناً، إلى ما يعانيه المجتمع القروي – عادة – من بدائية وتعنت وصلف وعنجهية وجهل في أساليب معيشته وطريقة تفكيره، ونظرته العامة للحياة، يتمثل في أوضح صورة له بتلك (الطبقية) التي أوجدها أفراده بينهم على أساس عرقي أو عنصري أو إقليمي.
من هنا بدأت مأساة (شمس) بطلة القصة. وهي تلك المرأة الأرملة الحسناء العفيفة الطاهرة، التي عاشت حياتها كلها إلى جانب أهلها في هذه القرية وبين سكانها منذ أن وُجدوا.
وبالرغم من ذلك فقد وجدت بين أهالي قريتها - وخاصة بعد وفاة زوجها وسوء ظروف حياتها - الجفاء منهم، وعانت كثيراً من قسوتهم وإنكارهم لكونها لا تنتسب لأصلهم القبلي المعروف من حيث الأصل أو العرق باعتبارهم – في نظر أنفسهم – مجتمعاً يتكون من أفراد معروفين بـ (نقاء دمائهم)، والحرص على عدم اختلاط أنسابهم بسلالات بشرية أخرى أقل منهم نسباً وحسباً وأصلاً وشرفاً كما يعتقدون.
وتبلغ المأساة ذروتها حين يرغب بطل القصة المعروف باسم (هاني) وهو أحد شباب القرية، وأحد أبناء وجهائها وأعيانها بالزواج من (شمس)، حيث يتنازع أهل القرية أمرهم فيما بينهم لإيقاف هذا الزواج بأي طريقة كانت، حفاظاً على عدم ضياع أنسابهم ونقائها وأصالتها، وعلى سمعتهم، وعلى شرفهم الذي يخدشه مثل هذا الزواج، لعدم تكافئه، أو كما يبدو لهم الأمر هكذا!!
وفي خضم هذه الأحداث تذوب مسألة زواج (هاني) من (شمس) كما يذوب الملح في الماء، ويكاد الناس ينسونها أو يتناسونها تماماً، خاصة حين يهاجر (هاني) من القرية وبعيداً عن أهلها الذين عارضوا زواجه واستنكروه تماماً إلى (المدينة) ولم يعد بعد هجرته تلك، إذ إنه تم قتله بعد هذه الحادثة مباشرة على يد رجل معتوه من أهل القرية في ظروف ذات ملابسات غامضة.
وفي سياق مواكب لهذه الأحداث تقريباً يفد طبيب من (المدينة) إلى (القرية) ويحل بين أهلها، وقد بعثته الحكومة كطبيب عام للكشف على منسوبي القرية من الأهالي وعلاجهم من الأمراض الشائعة، إلى جانب اهتمامه الشخصي اهتماماً بالغاً في علم (الآثار) ونبوغه فيه، غير مهنته الأساسية كطبيب وممارسته لها.
وقد اتخذ هذا الطبيب من أحد بيوت القرية ما يشبه مستشفى صغيراً ومختبراً طبياً بسيطاً للأبحاث والتجارب العلمية. ومن هنا يبدأ سير الأحداث يأخذ منحنى جديداً ومختلفاً، وبعداً آخر جعلها تخرج من حيز الواقع وجديته، إلى حيز الخيال وعبثيته، إذ يكتشف هذا الطبيب بحكم معرفته الواسعة بعلم الآثار، ولدى قيامه بالتجوال مصادفة في أحد أودية القرية – ذات مرة – وبملاحظته لما يشبه هوة مطمورة بالتراب والحصى قرب أحد الجبال المطلة على هذا الوادي، أن هذه القرية تجثم من حيث لا يعلم أهلها على (مدينة إرم) الشهيرة مستدلاً على ذلك بكثير من المؤلفات القديمة، وما ذكره الإخباريون القدامى بكتاباتهم عن هذه المدينة، وموقعها الجغرافي من شبه الجزيرة العربية، إضافة إلى استدلاله المبدئي بتشابه المسميين بين المدينة القديمة والقرية الحديثة إلى حد كبير.
وفي تطور معقد لمسار الأحداث إثر هذا الاكتشاف الخطير والعجيب والغريب في آن واحد تثور ثائرة أهالي القرية، ويدب بينهم الذعر والخوف والانبهار تجاه هذا الاكتشاف المهول الذي ربما قد يغير المجرى الرئيسي لحياتهم، ويجعلهم غير قادرين على الموازنة بين ماضيهم كمجتمع له تاريخ مجيد وتليد، وحضارة عريقة من جهة، وبين حاضرهم كمجتمع عصري حديث من جهة أخرى، لا ينبغي التفريط بممتلكاته وقيمه الحضارية الراهنة من بيوت وأراض سكنية ومزارع ومرافق حكومية عامة على حساب ماض سحيق كان لهم، وورثوه عن أجدادهم وبغض النظر عن مدلوله التاريخي المعتبر في نفوسهم، بحيث تصبح المقارنة هنا أمراً صعباً، خاصة حين يراجع المرء نفسه بعقلانية وواقعية.
وفي مثل هذه الحالة فمن الطبيعي أنه سيقرر أخيراً أن ماضيه الذي ولى بخيره وشره وحلوه ومره سيظل دائماً أقل شأناً من حاضره ومستقبله.
وهذا ما اختاره أهل القرية لأنفسهم – فعلاً – في نهاية المطاف من تفضيلهم لحاضرهم ومستقبلهم على ماضيهم، مما جعل معظمهم يهبون في وجه الطبيب الوافد إليهم، الغريب عنهم ويقفون في وجهه وضده، لكونه قد جلب إليهم الشؤم والنحس بمجرد قدومه إليهم وحلوله بينهم، ومفاجأتهم بهذا الاكتشاف الأثري الخطير الذي صدمهم بغيبيات و (ما ورائيات) وكائنات أسطورية وحكايات خرافية تعارضت مع واقعهم وحاضرهم، وهي تنذرهم بالفناء أو هلاكهم عن آخرهم مستقبلاً.
أسلوب الكاتبة في تناولها الأحداث وسردها ومعالجتها كان بسيطاً ومباشراً في الصفحات الأولى من الرواية، لدرجة أنها كادت تقع في (التقريرية) و(السرد الإخباري) القائم بأسلوبه على ما يشبه تقريراً كتب عن حادثة معينة، تم تحريره بطريقة تعاملت مع مادته وموضوعه تعاملاً مجرداً، أقصت الكاتبة من خلاله ذاتها معتمدة على الموضوعية، ولكن ما جعل للمشهد السردي وهجه وتألقه وجدته وطرافته، هي مقدرة الكاتبة فيما جاء بعد ذلك في المواضع التالية من الرواية، على توظيفها لعنصر الإدهاش والإثارة والتشويق عن طريق مزجها الآني واللحظي بين عدة عوالم مختلفة عن بعضها في تكوينها وطبيعتها وبيئتها: عالم (المدينة) بحضوره الاسمي فقط، والذي ظل تأثيره الفعلي في المشهد السردي للرواية كلها غائباً تقريباً، أو مبهماً، وعالم (القرية) وهو المسرح الحقيقي لمجمل الأحداث وشخوصها وزمانها ومكانها - كما سبق لنا ذكره – وعالم (الماورائيات) والمتمثل في اكتشاف المدينة، أو ما أسمته الكاتبة بـ (كائنات ما وراء الظن) أي اكتشاف المدينة الأثرية القديمة ونتائجه التي ترتب على ظهورها آثار عكسية لم تكن في الحسبان، وكانت ذات مردود سلبي وسيئ على أهل القرية، كان من أبرزها خروج مخلوقات ذات أشكال غريبة وقوى خارقة مخالفة تماماً للطبيعة البشرية، قامت بمهاجمة أهل القرية وقتالهم بشراسة ووحشية، بهدف طردهم من هذه القرية والاستحواذ عليها.
ولولا هذا الجانب الذي خلط بين هذه العوالم الثلاثة المذكورة في الرواية في آن واحد، على الرغم مما بينها من تناقض في خلقتها ومادتها وبيئتها وصفاتها الطبيعية أو (فيزيائيتها) وسلوكياتها، لما كان هذا العمل أكثر من (سرد حكائي) أوردته الكاتبة بشكل تقريري لسلسلة متتابعة من الأحداث التي لا تخرج عن إطار (الواقعية) ومعايشتها المباشرة، مما يفقد هذا العمل – بالتالي – فرصة التحرر من قيود الواقع المحيط وقوانينه الصارمة التي لابد أن تعيق من فنيات التخييل واستثمار التحليق في جمالياته، أو تقلل منها إلى الحد الأدنى على الأقل.