تبدو أهمية إنشاء المركز الدولي لمكافحة الإرهاب، ضرورة مُلحة وعاجلة، بالنظر إلى التطورات المتلاحقة في توسع الإرهاب وتمدده عبر العالم، وبخاصة منطقة الشرق الأوسط.. ولم تعد الأساليب والإستراتيجيات القائمة اليوم قادرة على الاحتواء ومنع الانتشار.. والواقع فإن محاربة الإرهاب يجب التعاطي معها في إطار المسؤولية الجماعية، للدول والمؤسسات الدولية، وأن تبذل في سبيل ذلك الجهود المشتركة السياسية والاجتماعية والأمنية والإعلامية بصورة متكاملة ومتوازنة، تستند إلى تبادل واسع لقاعدة بيانات تتيح تحقيق تقدم حقيقي في مواجهة الإرهاب.
والواقع فإن مشروعاً طموحاً بالغ الأهمية كهذا، يستوجب شعوراً بالمسؤولية التضامنية بين مختلف الأطراف الدولية، ومن هنا تأتي قيمة المبادرة الكبيرة للملك عبد الله بن عبد العزيز، في الدفع قدماً باتجاه تحقيق هذا المشروع، وقدم له منحة تيسر تأسيسه وإطلاقه، بالصورة الممكنة، ذلك أن الأخطار المحدقة اليوم بالمنطقة العربية - الأوسطية بصورة خاصة، تمثّل تحديات اجتماعية وثقافية لشعوب المنطقة، وهي أكثر تعقيداً وخطورة من التحديات الأمنية والسياسية، التي يمكن تحجيمها والإقلال من تأثيراتها وتطويقها، بالقدر الممكن.. يمنح إنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب مناخاً للعمل في عدة اتجاهات، أولها أنه يُشكّل إطاراً مؤسسياً للعمل الدولي، يمكن للدول الأعضاء المنخرطة فيه، العمل معاً، ليس في إنشاء قاعدة بيانات ومعلومات ذات صبغة تبادل أمني فحسب، ولكن الأمر يتجاوز ذلك في نقاط ثلاث: الأولى: تتمثّل في الجانب العلمي والمعرفي الذي سيوفره المركز عبر الدراسات والبحوث المتخصصة بشؤون الإرهاب وارتباطه بالسياسات والصراعات الدولية، وبالمسألة الثقافية، وانعكاساته في التغيير الاجتماعي.
ثانياً - وضع السياسات، وهي عملية محورية فيما يتصل بمحاربة الإرهاب، بصورة جذرية، ما يستلزم تشاوراً مشتركاً وعملاً جماعياً، يأخذ في الاعتبار نتائج البحوث والدراسات، بما يمكّن المركز من وضع الخطط والبرامج المرحلية والإستراتيجية، التي يُراعى فيها طبيعة الإشكاليات وحجمها، وكيفية التعامل معها، في الإطارين الوطني والدولي، بحكم أن انتشار الإرهاب كفكر وجريمة، لم يعد محصوراً بالجغرافيا أو الشعوب.. يُضاف إلى ذلك، أولويات الأهداف وبرامج العمل.. أما النقطة الثالثة فهي تتصل بالتنسيق ما بين الأطراف الدولية، لوضع ما يتفق عليه كبرامج عمل وإستراتيجيات لمحاربة الإرهاب، موضع التنفيذ.. لا يقف الأمر عند هذه الحدود، ولكن العملية التكاملية، تستوجب التنسيق وتبادل المعلومات والخبرات، في كل خطوات العمل، سياسياً وأمنياً، إذ إنه لا يمكن لأي طرف دولي العمل على مكافحة الإرهاب واستئصال شأفة الإرهابيين منفرداً، أو في إطار ثنائي أو إقليمي.. تمدد وانتشار الفكر الإرهابي يتطلب أقصى درجات التعاون في حرب كونية، سوف تستدعي كل المستلزمات اللوجستية والفكرية بدرجة أولى، ولا يمكن لأي عمل سياسي وأمني من إنجاز مهامه دون إسناد فكري وثقافي له.
لا شك في أن مراكز الدراسات والبحوث تنطوي على أهمية قصوى، في المجتمعات المعاصرة، من شأنها تقديم الأفكار والتصورات، حيال مختلف القضايا التي تدفع بالمجتمع نحو التقدم والرقيّ، فضلاً عن أنها تتناول المشكلات القائمة بالدرس والتحليل، والخلوص الى استنتاجات وسيناريوهات للحل، مما يمنح صانعي القرار وراسمي السياسات، الأرضية العلمية والمعرفية التي تمكنهم من اتخاذ القرار المناسب.
والواقع، فإن مركزاً دولياً بهذه القيمة الفكرية المُعبّر عنها بموجبات تأسيسه، يمكن له أن يساهم في صنع رأي عام عالمي، حول قضية الإرهاب، بل وإعادة بناء الصورة الذهنية، المتصلة باعتبار كل ما هو عربي - إسلامي شرق أوسطي، هو إرهابي، وأن دول المنطقة هي منبت الإرهاب وأصل انتشاره.. ولا شك أن التطرف موجود وقائم كمظهر ثقافي لدى كل الشعوب، بوصفه سمة إنسانية، ويمكن لتلاقي جملة من الظروف والأسباب، أن تجعل من مجموعة بشرية، خلية إرهابية.
المركز يجب أن يوفر بيئة بحث هامة، حول جذور العنف والتطرف وتطوره كظاهرة إرهابية، والعمل من خلال ذلك على اقتلاع جذوره الثقافية، والدفع ببرامج التغير الاجتماعي، التي تقود تدريجياً للتخلص من النزعة الإرهابية التي يتم زرعها وفقاً لمؤثرات محددة في أوساط الشباب.. والواقع أن المركز يمكن له أن يوجد وسائل العمل المشتركة لتجفيف منابع الدعم المالي واللوجستي، ومواجهة التطرف الفكري، الذي ينتشر دونما حدود عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وسهولة وسرعة انتقال المعلومات والأفكار.. ولعل اختيار السعودية في الأمم المتحدة لتكون حاضناً لهذا المركز، ما يُؤكد على أهمية أن يبنى المركز على أسس من الشفافية، والموضوعية العلمية.. وهي معايير تمكّن المركز من استقطاب الخبرات الدولية والباحثين المميزين والسياسيين الفاعلين في صنع السياسات، ليكونوا جزءاً من مجتمع البحث عن طرائق مكافحة الإرهاب في العالم، وتخليص المجتمعات من آفة فتّاكة تسعى لتدميرها، من شأنها نسف كل مشروعات التطوير وبناء المستقبل.