أجمع عدد من أصحاب الفضيلة من الخبراء والأكاديميين الشرعيين، والدعاة، على أهمية تربية الأجيال على الفكر الإسلامي المعتدل، الذي يجمع بين الدين والدنيا، والقائم على العقيدة السليمة والتصور الصحيح عن حقيقة الإنسان والكون والحياة والعلاقة بينها وبين خالقها، وأن تتضافر الجهود وتتوسع لتصل لكل من لا يدرك حقيقة وسطية الدين الإسلامي وسماحته في نبذ الغلو والتطرف ومكافحة الإرهاب، مشددين على أن الغلو والتطرف والإرهاب خطر يهدد الجميع بلا استثناء، وهذا يحتم المسؤولية العامة في مواجهة هذا الداء المستشري.
جاء ذلك في أحاديث لهم في الحلقة الخامسة من ملف « الجزيرة « الذي افتتحته منذ أربعة أسابيع، مستطلعة فيه آراء لفيف من العلماء والدعاة وطلبة العلم وأساتذة الجامعات حول دور المؤسسات الشرعية في ترسيخ منهج الوسطية والاعتدال ونبذ الغلو والتطرف ومكافحة الإرهاب.
أفكار غريبة
بداية يؤكد فالح بن محمد بن فالح الصغيّر أستاذ السنة المشرف على شبكة السنة النبوية عضو مجلس الشورى : إن الأحداث العالمية المتسارعة في السنوات الأخيرة ما بين حروب ودماء ومظالم وصدامات حضارية أفرزت حركات وأفكار غريبة عن التعاليم الإسلامية الصحيحة المستقاة من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ومن بين تلك المستجدات ظاهرة والغلو والتكفير والتفجير داخل البلاد الإسلامية، وقد عانت تلك البلاد أضراراً كبيرة جراء هذا الفكر الدخيل عليها خاصة بين أبنائها الناشئة، يقوده بعض المنظّرين الجهلة المحسوبين على العلم، ويسعى أصحاب هذا الفكر إلى إحداث فتن وقلاقل بين المسلمين أنفسهم تارة، وبين المسلمين وولاة أمورهم تارة أخرى، من خلال حجج وأدلة واهية لا تستند إلى النصوص الشرعية الصريحة التي تدعوا إلى الحفاظ على الدماء والأوطان ونبذ الفتنة والفرقة بين المسلمين.
من هنا كان على المسلمين بكل مستوياتهم وطبقاتهم ومؤسساتهم الشرعية والعلمية أن يقفوا في وجه هذا التيار الهادم الذي يقضي مقدرات الأمة ويخدم أعداءها، والمهمة الكبيرة في التصدي لهؤلاء الغلاة تقع على عاتق المؤسسات الشرعية وعلماء الأمة، لتقوم بواجبها الصحيح في هذه المرحلة التاريخية، ولعل من أهم المهام التي يجب القيام بها، ما يلي:
أولاً: تقوية الأمة فكرياً: وذلك من خلال التحصيل العلمي الشرعي المعتدل وتربية الأجيال على الفكر الإسلامي المعتدل، الذي يجمع بين الدين والدنيا، والقائم على العقيدة السليمة والتصور الصحيح عن حقيقة الإنسان والكون والحياة والعلاقة بينها وبين خالقها، من خلال اتباع مذهب السلف الصالح في المنهج والشريعة، وهو كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وبذل كل الطاقات والجهود التي تملكها الأمة في سبيل نشر هذا المنهج بين المسلمين، وإدخاله ضمن المناهج التعليمية المختلفة في المدارس والجامعات وجميع المؤسسات العلمية والمعرفية، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ}.
كما جاء النهي عن هذا الفكر في كتاب الله تعالى بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ} (171) سورة النساء. وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} (77) سورة المائدة.
وقال عليه الصلاة والسلام: «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين».
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه بقوله: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثاً. ويقول النووي - رحمه الله - : أي المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
ثانياً: تفعيل دور المرجعيات الشرعية بحيث تلتف الأمة حول علمائها المعتبرين المشهود لهم بالعلم والصلاح، فهم أعمدة الأمة وأركانها في أزماتها ونوازلها، وإرساء قواعد الثقة والمحبة معهم، لأن فقدان الثقة يعرض هذه الأركان للسقوط والانهيار، ومن أجل هذا أمر الله تعالى عباده باللجوء إلى أهل العلم حين يحوج الأمر وتشتد الأزمات (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
فالعلماء المخلصون هم قادة الأمة لا تستقيم أمورها من غيرهم، فهم الذين يأخذون بأيدي الناس إلى الهدى والخير، ويحذرهم ويمنعهم من طرق الغواية والضلال الفكرية والأخلاقية والسلوكية.
ثالثاً: البيان الواضح عن طريق المحاضرات والدروس العلمية حول وسطية الإسلام، والتحذير من هذا الفكر الدخيل في المدارس والمساجد والجامعات والمراكز الاجتماعية ونحوها من خلال وسائل الإعلام المختلفة.
رابعاً: منع كل ما يؤدي إلى صراعات وأحقاد بين المسلمين، وازدياد وتيرة العصبيات لديهم، ويرمي بالبلاد والعباد إلى دوامة التمزق والضعف، فتحل الخسارة في الدارين الدنيا والآخرة، من خلال كل مؤسسة لها ارتباط في التوجيه والتربية.
خامساً: التنسيق بين المؤسسات الشرعية والمؤسسات الحكومية المعنية، مثل وزارة الداخلية ووزارة الإعلام، من أجل ترسيخ المفاهيم الإسلامية الصحيحة، ونبذ ما يخالفها من الأفكار والآراء المتطرفة.
سادساً: إيجاد البرامج التربوية الموجهة توجيهاً سليماً من خلال المدارس والمؤسسات التعليمية، وعمل المناشط في هذا الإطار.
سابعاً: تعامل الأجهزة والمؤسسات كافة بما تقتضيه المرحلة وفق توجيهات خادم الحرمين الشريفين الذي كان صريحاً في بيان خطر المرحلة، وهذا كما يحمل المسؤولية العلماء والمفكرين فكذلك الأجهزة الشرعية والتعليمية.
الوسطية منهجٌ وسلوك
ووصف الدكتور عادل بن محمد العُمري أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة القصيم الوسطية بأنها منهجٌ وسلوك فليست الوسطية مجرد ادعاءات, أو مجرد كلمةٍ تقال؛ إنما هي أقوالٌ وأفعال، ليس من المفيد أن ندَّعي الاعتدال أو ندعو للوسطية ثم لا نترجم تلك الدعاوى بتطبيقات حقيقية للمنهج الوسطي المعتدل, تلك التطبيقات والأفعال هي من مسؤوليات المؤسسات الشرعية بجميع مجالاتها وفروعها وكذلك هي من مسؤوليات المؤسسات التعليمية، وبيان ذلك من خلال النقاط التالية:
1 - من مشكلات مؤسساتنا الشرعية المنهجية نقد بعض تصرفات الحركات المتطرفة الهمجية كعمليات القتل والتفجير, لكنها في الوقت نفسه لا تُعنى - كثيراً - بنقد الأفكار التي تحملها تلك الحركات المتطرفة ؛ لأن النقد يذهب للتطبيق دون الأفكار التي أبرزت ذلك التطبيق، فالأفعال نتيجةُ الأفكار, وإدانة الأفعال الخبيثة دون النظر في جذورها ومسبباتها لا يسمنُ ولا يغني من جوع, وحينما تكون شجرةُ الزقوم ذات الطعام القاتل والرائحة الكريهة مثمرةً فبالطبع أن يكون طلعُها كأنه رؤوسُ الشياطين.
2 - يجب على مؤسساتنا الشرعية اعتماد منهج فقه الاختلاف في تعاطيها الفكري والفقهي مع المختلف, فمن مشكلات مؤسساتنا الشرعية : عدم وجود رؤية تربوية إيجابية في التعامل مع المختلف فكرياً ناهيك عن الاختلاف المذهبي والديني، كذلك عدم الإدانة الصريحة الجادة لمفتعلي أشكال العصبيات بأنواعها, كذلك إشكالية الأخذ برأي عددٍ قليلٍ من الفقهاء واعتبار اجتهاداتهم نهائية وصائبة، وعدم العناية بالآراء العلمية الفكرية والفقهية الأخرى المختلفة مع تلك الاجتهادات، علماً أن ليس من حق أي أحد أن يحتجَّ في مسألةٍ شرعيةٍ بقول أحد العلماء ؛ ذلك هو التقديس بعينه مهما بلغ ذلك الشيخ من العلم والفهم ؛ فمصادر التشريع المتفق عليها ثلاثة : القرآن والسنة والإجماع ؛ وليس من بينها قول العالم المتمكن أو المشتهر.
3 - خطبة الجمعة وما أدراك ما خطبة الجمعة ؟ هل لخطبة الجمعة - اليوم - دورٌ ظاهرٌ في تعزيز مفاهيم الاعتدال والوسطية ونبذ الغلو والتطرف؟ هل لخطبة الجمعة دورٌ ظاهرٌ في تعزيز مفهوم المواطنة الصالحة ؟ هل لخطبة الجمعة اليوم دورٌ بارزٌ في حلِّ مشكلاتنا الفكرية المعاصرة كمعالجة مشكلة الطائفية والعنصرية؟ ماذا صنعت خطب الجمعة المعاصرة لتعرية تيارات الغلو والتشدد ؟ إننا نجد الكثير من الخطباء من يعمق التشدد والغلو فيدعو على من يختلف معه فكرياً، ويدعو كذلك على أتباع الأديان والمذاهب والفِرق مما يعزز - لدى مستمعي الخطبة - لغة الكراهية والاحتقان الطائفي، ومما يعزز فكرة الانتقام من المختلف فكرياً؛ علماً أن ذلك ليس من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة، بل الثابت عنه أنه اقتصرَ في دعائه من على منبره على المعتدين فقط كما ثبتَ في صحيح مسلم : « اللهم العن رعلاً وذكوان وعصية « وهي قبائل من العرب ولم يثبت عنه أنه دعا من على منبره على عامة اليهود والنصارى.
4 - تفتقد المؤسسات الشرعية للكثير من الأبحاث العميقة المتجردة في موضوع الوسطية التي تنشد الحقيقة وتبحث في الجذور والأسباب الرئيسة للغلو والتشدد والإرهاب دون مواربةٍ أو مجاملةٍ لأحد, ودون النظر لرغباتنا وتوجهاتنا ولما هو سائدٌ في مجتمعاتنا التقليدية, معتمدةً المصلحة الوطنية ومعتمدةً الحقائق والأدلة والبراهين التي تخلو من الأفكار والنتائج المسبقة.
5 - هناك قصور شديد في ترسيخ الكثير من المفاهيم الفكرية تبعاً لإغفال المؤسسات الشرعية الجانب المقاصدي لفهم الشريعة الإسلامية, فللأسف حين لا نقرر في دراساتنا - مثلاً - أن الأصل المقرر عقلاً وشرعاً هو السلم وليس الحرب؛ ذلك أن الحرب حالةٌ طارئة لرفع الظلم ومنع حدوثه, وللأسف حين يقرر البعض أن الأصل في دم غير المسلم هو الحل وليس الحرمة, وللأسف - أيضاً - أن يقرر البعض بأن الأصل في سبب الجهاد هو الكفر وليس وجود الاعتداء على المسلمين أو ظلمهم واضطهادهم دينياً وبهذا ينتفي الجهاد مع وجود حرية الممارسة الدينية وذلك باعتبار النظر في مقاصد الشريعة بعيداً عن الاعتبارات الحزبية الحركية المعاصرة وبعيداً عن الموروثات الاجتهادية غير المقدسة الملزمة, وذلك باعتبارها إرثاً اجتهادياً يحقُّ لنا نفضه ونقضه، وإن على المؤسسات الشرعية أن لا (تتكاسل) أو تتقاعس عن تصحيح مثل تلك المفاهيم بكل جرأةٍ وجديةٍ وحزم.
نبذ الغلو والتطرف
أما الشيخ عبد الله بن عبد العزيز الناصر المدير العام لفرع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في منطقة الرياض فيقول : إن الوسطية والاعتدال هي سمة من سمات الشريعة الإسلامية والمنهج الوسطي هو منهج الشرع الموافق للفطرة والعقل السليم، حيث وصف الله هذه الأمة المسلمة بأنها الأمة الوسط ـ ولذلك فإن تطبيق هذا المفهوم في حياة المسلمين مهم جدا، ولكن لابد من فهمه فهما صحيحا وسليما، فقد جاء في تفسير هذه الآية الوقوف على المعنى الحق لمفهوم «الوسطية» والأمة الوسط, وذلك حتى ننطلق من هذا المعنى الصحيح في ذكر الأمثلة والمظاهر المتنوعة لهذه السمة المميزة للإسلام وأهله. ومن هذا المنطلق والمبدأ العظيم الذي هو سمة بارزة من سمات الشريعة الإسلامية كان لزاما على جميع المؤسسات الشرعية وغير الشرعية تطبيق هذه السمة والمتتبع لوضع بلادنا المباركة يلمس ويجد ذلك - ولله الحمد - وذلك يعود لأسس ومبادئ قيام هذه البلاد على الشريعة الإسلامية السمحة منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ وحتى عهدنا هذا في ظل قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود ـ أمد الله بعمره ـ ومتعه بالصحة والعافية، فكانت أولى السياسات نبذ الغلو والتطرف والتناحر بين القبائل وبسط الأمن، وقد تحقق ذلك بفضل من الله ثم بالتوجيهات المباركة والمسددة وما ظهر مؤخرا من جرائم الإرهاب فقد وفق الله هذه البلاد باجتثاثه حتى أصبحنا مرجعا لعـلاج الكثير من حالاته وأشكاله، ولم يكن ذلك ليتحقق إلا بفضل من الله سبحانه وتعالى أولا ثم بفضل رجال الأمن المخلصين من أبناء هذا الوطن، والجهود المباركة من المؤسسات الشرعية في حكومتنا الرشيدة وفقها الله. ويدعو الناصر إلى وجوب أن تتضافر الجهود وتتوسع لتصل لكل من لا يدرك حقيقة وسطية الدين الإسلامي وسماحته في نبذ الغلو والتطرف ومكافحة الإرهاب، فقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يدعو أصحابه إلى الاعتدال ومجانبة الغلو والتطرف أيّاً كان شأن هذا الغلو؛ لأن الناس في حرصهم على التقرب إلى الله قد يبالغون في العبادة، وقد يجانبون الاعتدال، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بالاعتدال والتوسط، وضرب لذلك مثلاً؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «سدِّدوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا» وحين كان يعلِّم أصحابه أحكامالدين وشعائره كان يعرف أنه قد يوجد من أتباعه من قد يجنح إلى الغلو فيحذر من ذلك، ويؤكد عليه الالتزام بما جاء في الدين دون تكلف أو زيادة مؤكداً مبدأ الاعتدال والقصد، وأمرهم بأن يأخذوا من الأعمال ما يطيقون فِعْلَه دون أن يشقُّوا على أنفسهم، ويذم محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين يبالغون في الدين ويتنطعون، إما بتحريم ما لم يحرِّمه الدين، أو بإيجاب ما لا يوجبه، أو بالتكلف والمغالاة في التطبيق على خلاف الشريعة، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «هلك المتنطعون؛ قالها ثلاثاً».
ويواصل الشيخ عبد الله الناصر قائلاً : لقد كانت عقيدة الإسلام في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصدر الأول من عهد صحابته والتابعين واحدة، والمنهج واضح ليله كنهاره لا يزيغ عنه إلا هالك، ثم ظهرت طوائف البدع والضلال، ودعاة الفرقة والانحراف بعد ذلك، واستمرت فرق الضلال إلي عصرنا الحاضر، فاستهدفت قوى الشر والانحراف هذه البلاد، التي تحكم شرع الله وتحفظ حرماته وتنشر دعوة الإسلام النقية في بقاع الدنيا، فكان تعامل قيادة هذه الدولة وعلمائها أنموذجاً يحتذى في العدل مع هؤلاء المنحرفين، واهتمت الدولة - أدام الله عزها على طاعته - بتوعية الناس بخطر ما يدعو إليه مبتدعة العصر وأهدافهم الهدامة التي فيها إهلاك للحرث والنسل، وما تقوم به وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بكل مكوناتها الشرعية في مكافحة الإرهاب، أنموذج من نماذج هذه التوعية التي نفع الله بها.
المواجهة الحتمية
وينبه الداعية الشيخ بدر بن سليمان العامر عضو الدعوة والإرشاد بالرياض : إلى أنه لم تعد قضية التطرف والعنف والغلو تخص فئة من المجتمع أو مؤسساته العلمية والأمنية، وإنما أصبح الأمر هاجساً لكل فئات المجتمع ومشاركة الجميع في مواجهته حتمية ؛ لأن الغلو والتطرف والإرهاب خطر يهدد الجميع بلا استثناء، وناره سيكتوي فيها الكل، وهذا يحتم المسؤولية العامة في مواجهة هذا الداء المستشري، إذ التطرف ليس حالة فكرية أو علمية فقط، بل هو حالة سلوكية تنعكس على أمن الناس واستقرارهم وحياتهم وأعراضهم، وهو سبيل كذلك إلى ركوب الأعداء لهذه الفئة لتحقيق مخططات تستهدف ديار المسلمين وتفكيكها وإضعافها وإثارة الفوضى والاقتتال بين أبنائها.
إن المسؤولية لا بد أن يضطلع بها الجميع كل بحسب موقعه وإمكاناته وقدراته، وعليه فإن العلماء يتحملون مسؤولية كبيرة أكثر من غيرهم في الوقوف أمام المد الهائل من الشبهات والتحريفات التي يلقيها أرباب هذه التيارات بهدف إضلال الشباب وإيهامهم بصحة مسلكهم وموافقة أفعالهم من أحكام الشريعة وخاصة فيما يتعلق بأحكام « الجهاد والقتال والتكفير والحسبة «، وهذا هو الدور المفترض والطبيعي لمن آتاه الله علماً، والنبي - عليه الصلاة والسلام - أخبر عن هذا الدور العظيم بقوله : (يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)، ولا يتم ذلك إلا من خلال الحركة العلمية الدؤوبة التي تتابع هذه التيارات وتكشف شبهاتها وتحاور منتسبيها من خلال وسائل الاتصال العصري وتحنو على المتعاطفين الذين يرون في هؤلاء الصدق حتى يتم استنقاذهم من براثن الشبهات التي تودي بهم إلى أتون الخارجية والضلال المنهجي. إن تكثيف الجهود الإعلامية للمؤسسات الشرعية ضرورة لا ترف في هذا الوقت بالذات، وتطوير «الخطاب الشرعي» من حيث الأسلوب والشكل مهم في التأثير على العقول والأفهام، فالتقليدية لا تجدي مع حجم الخطاب العاطفي والمتطور الذي يتم فيه التأثير على قطاعات الشباب واستقطابهم لهذه الجماعات وإقناعهم برؤاهم وأفكارهم، وهذا يحتاج إلى عمل احترافي تستثمر في خبرات إعلامية لصياغة المحتوى المؤثر الذي يواجه هذه الأفكار والتوجهات.
كما أن هناك ضرورة ملحة للمؤسسات الشرعية في بناء مراكز للرصد والدراسات واستشراف المستقبل حتى يمكن بناء الخطط الناجحة في مواجهة هذه الأفكار والنظر في مسبباتها بأسلوب علمي يوقف العلماء على حقيقة منازع هذه الشبهات التي تفتك بشبابنا.
وهذا الأمر يتطلب بناءً استراتيجياً لا ينفعل بالأحداث ثم يخفت صوته مترقباً حدثاً جديداً، بل يرسم المناهج والأهداف البعيدة التي تحصّن الأجيال من أدواء الأفكار المضلة وذلك لأن أفكار الغلو يستمر ما دام هناك إيمان وإسلام، والنبي - عليه الصلاة والسلام - أخبر باستمرار هذه الحالة حتى يقاتل آخرهم في صف الدجال، وأخبر أنهم لا يزالون يخرجون وأنهم « كلما خرج قرن قطع «، وهذا يعني استمرار الحالة ووجوب استمرار علاجها.