الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد..
فقد قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} (68) سورة القصص.
وهذا الاختيار والتخصيص من دلائل ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبر كتدبيره.. ومن ذلك تفضيله بعض الأيام على بعض، فمن خير الأيام وأفضلها عند الله يوم عرفة، وقد جاء في فضائله سواء ما كان للحاج أو غير الحاج ما يجعل القلوب تحن إليه وتشتاق الأرواح للإقبال عليه.
ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ان رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية من كتابتكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أكملتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا} (3) سورة المائدة.
قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.
وثبت في صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله - عز وجل - فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ماذا أراد هؤلاء.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي هؤلاء جاؤوني شعثاً غبراً) (رواه الإمام أحمد وابن خزيمة في صحيحه وابن حبان في صحيحه).
وجاء في حديث مرسل أخرجه الإمام مالك في الموطأ عن طلحة بن عبيد الله بن كريز - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ما رئي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه يوم عرفة، مما يرى من نزول الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الأمور العظام إلا ما رئي يوم بدر، قيل: وما رأى يوم بدر؟ قال: إنه رأى جبريل يزع الملائكة.
وثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله التي بعده.
فهذه الأحاديث وغيرها تبين عظمة هذا اليوم عند الله تعالى وتشير إلى خصائصه.
1 - فهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة كما جاء في قوله سبحانه: {الْيَوْمَ أكملتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا} (3) سورة المائدة.
وقد سبق حديث عمر في هذا المعنى.
2 - وهو عيد من الأعياد الخاصة بأهل الموسم، كما ثبت عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب) (رواه أبو داود والترمذي وصححه النسائي وابن ماجة).
3 - وهو أنه أفضل الأيام كما قال بذلك جماعة من العلماء وذهب آخرون إلى أن أفضل الأيام هو يوم النحر.
4 - وهو أنه يوم الحج الأكبر، كما قال ذلك جماعة من العلماء، وقال آخرون إن يوم النحر هو يوم الحج الأكبر.
5 - وهو أن يوم عرفة يوم مغفرة الذنوب والتجاوز عنها والعتق من النار، وهذا مما يشترك فيه الحجاج وغيرهم من المسلمين في جميع الأمصار، فالحجاج يغفر لهم لحجهم وموقفهم في عرفة، وغير الحجاج لصيامهم ذلك اليوم.
فهذا اليوم من أعظم الأوقات وأرجاها لمغفرة الذنوب والعتق من النار، ولذا ينبغي لكل مؤمن ومؤمنة اغتنام فضل هذا اليوم والتعرض لنفحات الرب جل وعلا سواء كان حاجاً أو غير حاج.
فمن أسباب المغفرة والعتق من النار: الحج، كما ثبت في أحاديث عديدة في الصحيحين وغيرها: أن الحج المبرور يمحو الذنوب، ويرجع المرء من حجه كيوم ولدته أمه، وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
وكذلك من أسباب المغفرة والعتق من النار صيام هذا اليوم لغير الحجاج كما ذكرنا الحديث في ذلك المخرج في صحيح مسلم وأنه يكفر سنتين.
وكذلك من أسباب المغفرة والعتق من النار الإكثار من شهادة التوحيد لا إله إلا الله وحده لا شريك له بصدق، ودعاء الله بها وغيرها من الأذكار كالتسبيح والتكبير والتحميد.
وكذلك من أسباب المغفرة والعتق من النار الصدقة والإحسان والإنفاق في سبيل الله، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة) والآيات والأحاديث في فضل الإنفاق والإحسان إلى الناس كثيرة معلومة.
فحري بالمرء الذي يرجو رحمة ربه ويخشى عذابه أن يكون في هذا اليوم وبخاصة إذا كان واقفاً في عرفة أن يكون خاشعاً متذللاً متواضعاً منكسراً بين يدي الله معترفاً بذنوبه، سائلاً العفو والستر والغفران، مكثراً من الدعاء وملحاً فيه، ومكثراً من الأذكار الفاضلة فكل ذلك من أسباب المغفرة والعفو والتجاوز من الرب الكريم المنان.
وإذا كان فعل الأسباب الجالبة لمغفرة الله والعتق من النار مطلوباً فكذلك يجب على الحاج وغير الحاج الحذر من الأسباب المانعة من المغفرة وأعظمها التلبس بشيء من أنواع الشرك سواء كان من الشرك الأكبر أو الأصغر قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} (48) سورة النساء.
وكذلك يجب الحذر من سائر البدع والمحدثات التي ليست من دين الله، سواء كانت بدعاً اعتقادية أو عملية فالحذر الحذر أيها المسلم من ذلك لئلا تخسر الدنيا والآخرة.
كذلك يجب التخلص من سائر الذنوب بالتوبة النصوح والاستغفار، فإن باب التوبة مفتوح في كل وقت وحين، وهو في يوم عرفة أعظم وأوسع.
نسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية في الدنيا والآخرة، وان يتقبل منا ومنهم الصالحات، وان يعفو عن الزلات، وأن يستر العيوب والعورات، وأن يمن على الجميع بالمغفرة والعتق من النار، إنه جواد كريم وبالإجابة جدير.
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.