الشيخ نايف اليحيى يجيب:

مَن جاوز الميقات لعمل أو حاجة.. هل يلزمه الإحرام؟

بريدة - الجزيرة:

مع تطور وسائل النقل في هذا العصر، وارتباط الإنسان بأعمال وتجارة يحتاج إليها قرب مكة المكرمة، ظهرت مسألة من المسائل المهمة وهي: لو أنّ هذا الإنسان قد بيّت النية لأداء النسك بعد انقضاء شغله، هل يلزمه الإحرام عند مروره بالميقات أم لا؟

أجاب عن هذه المسألة فضيلة الشيخ نايف بن محمد اليحيى، الداعية بمركز الدعوة والإرشاد في بريدة، قائلاً: المسألة على ثلاث أحوال؛ الحالة الأولى: ألاّ يقصد النسك مطلقاً، فهذا لا يجب عليه الإحرام إذا لم يرد دخول مكة، ثم إذا عنَّ له أن يعتمر أو يحج بعد ذلك أحرم من موضعه الذي هو فيه، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة. واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «فمن حيث أنشأ».

الحالة الثانية: أن يجاوز لعمل أو حاجة وهو لا يعلم هل يوافق مرجعه ومديره على حجه أم لا؟ فلا يلزمه الإحرام، لأنه لم يتحقق العزم والإرادة عنده، ولأنه قد لا يؤذن له، وإن كان متردد النية هل يحج أم لا، فهذا التردد إن كان مستوي الطرفين لم يترجح عنده إرادة الحج من عدمه فلا يلزمه الإحرام، لعدم تحقق القصد منه والإرادة للنسك.

الحالة الثالثة: أن يجاوز لعمل أو حاجة وفي نيته النسك بعد الانتهاء من عمله، كمن يذهب لجدة لعمل أو سياحة وفي نيته الحج بعد ذلك، فهل يلزمه الإحرام من الميقات؟

يوضح الشيخ نايف اليحيى أنّ في هذه الحالة الثالثة اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:

القول الأول: يجب عليه الإحرام من الميقات ولو كانت مدة عمله طويلة، كشهر ونحوه، أو يرجع للميقات بعد فراغه من عمله فيحرم منه، وهو قول ابن حجر الهيتمي الشافعي، وظاهر قول المرغيناني الحنفي، وظاهر فتاوى الشيخ ابن عثيمين واللجنة الدائمة. ويدلل فضيلته على هذا القول بحديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق: «ولمن أتى عليهن ممن أراد الحج أو العمرة»، فهذا مريد للحج ولو تخلل سفره عمل فيبقى أنّ الإرادة موجودة.

ويناقش الشيخ اليحيى القول بأنّ سفره وقصده هو للعمل، ونية الحج وإرادته تابعة، وهو لا يريد الآن حجاً ولا عمرة وإنما يريد مكان عمله وقضاء شغله. ويجيب عنه: بأنّ الإرادة وإن كانت تابعة فيبقى أنها موجودة، والحديث علق الإحرام بالإرادة، وقد وجدت فيجب أن يثبت حكم لازمها وهو الإحرام.

وأشار فضيلته إلى أنّ هذا القول يجاب عنه: بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل، وهو لم يحركه من بلده إلاّ قصد العمل، فالنية فيه هي الأصل، وهي المقصودة الغالبة حال المجاوزة، فيكون الحكم لها.

وذكر الشيخ نايف اليحيى القول الثاني ويذهب إلى أنه ينظر إلى الباعث له على السفر، فإن كان الباعث له على سفره العمل الذي قصده، أو المؤتمر الذي سيحضره، ونية العمرة تبع فلا يلزمه الإحرام، وإذا أراد النسك أحرم من موضعه.

أما إن كان الباعث على السفر النسك، وأراد أن يقضي شغله على طريقه فيلزمه الإحرام من الميقات، ولو كان سيبقى في شغله أياماً، أو يتجاوز غير محرم، وإذا أراد الإحرام رجع للميقات وأحرم منه. وبه قال بعض الحنفية، والشهاب الرملي والشرواني الشافعيين، والشيخ عبد الرزاق عفيفي. واستدلوا بدليل وتعليلين:

أما الدليل: فهو حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال:

خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجًّا، وَخَرَجْنَا مَعَهُ، قَالَ: فَصَرَفَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ حَتَّى تَلْقَوْنِي» قَالَ: فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا قِبَلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ، إِلَّا أَبَا قَتَادَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ» أخرجه مسلم.

وجه الاستدلال: أنّ أبا قتادة ومن معه رضي الله عنهم لما خرجوا إلى الساحل لم يحرموا من ذي الحليفة مع وجود نية النسك، وإنما أحرموا لما فرغوا من عملهم وتوجهوا قِبل النبي عليه الصلاة والسلام، فدل على اعتبار الباعث على السفر، وأنه يحرم من حين انتهاء عمله.

ويجاب عنه من وجهين:

الوجه الأول: أنّ هذا كان قبل فرض المواقيت، حكى الأثرم عن الإمام أحمد أنه سئل: في أي سنة وقّت النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت؟ فقال: عام حج.

الوجه الثاني: أنهم لم يحرموا خوف لقاء العدو الذي أرسلهم النبي عليه الصلاة والسلام لأجله، فرخص في ترك الإحرام للحاجة، لذلك فمن العسير أن يقاتلوا بإحرامهم.

ويجاب عن الوجه الأول: بأنّ ذلك لم يثبت، ولم يدل دليل صريح على أنها لم تفرض إلاّ في السنة العاشرة، وقد أحرم النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة من المدينة كما هو ظاهر الأحاديث، وعلى فرض أنها لم توقت إلاّ في السنة العاشرة فإحرام النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه من المدينة دليل على أنها ميقات من أراد النسك من قبل.

ويجاب عن الوجه الثاني: أنه إذا جاز عند لقاء العدو للحاجة مع أنّ اللقاء كان مظنوناً، فالحاجة موجودة أيضاً فيمن سافر لأجل عمل، وفيه من الحرج والمشقة عليه أن يبقى أياماً في عمله بإحرامه.

وأشار الشيخ نايف اليحيى إلى التعليل الذي استدلوا به وهو: أنه عند سفره ومجاوزته الميقات غير مريد للنسك، وإنما يريد ذلك الموضع الذي فيه عمله، فهو الذي نهزه وبعثه لأجل السفر، فكيف نوجب عليه الإحرام ونية النسك ليست حاضرة عنده؟

وأوضح فضيلته أنّ هذا السؤال يجاب عنه: بأنه وإن كان يقصد موضع عمله عند المجاوزة إلاّ أنّ نية النسك موجودة، فهو ناوٍ أداءه بعده، والحديث علق الوجوب بمطلق الإرادة «ممن أراد الحج أو العمرة»، وهو في حقيقته مريد لذلك ولو تخلله شغل آخر.

وذكر الشيخ اليحيى أنه نوقش: بأنه «يغتفر في الشيء ضمناً ما لا يغتفر فيه قصداً»، و «يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها»، والإرادة هنا حقيقة لا ظهور لها في قصده، بل قصده وسفره قِبل عمله، ونية النسك بعده تابعة لا أصلية. أما التعليل الثاني قال فضيلته: إنّ إلزامه بالإحرام وهو غير قاصد للنسك حرج لا تأتي الشريعة بمثله، وفيه من المشقة عليه والتنفير عن أداء النسك لصعوبة وعسر الجمع بينهما عليه. ويجاب عنه: بأنّ الحج والعمرة يوجد في غالبهما المشقة، والأجر على قدر النصب. ونوقش: بأنّ وجود المشقة في بعض أعمالها لا يلزم تقصده أو الإلزام به في أحوال أخرى دلت القرائن على التيسير فيها.

وفي ختام هذه المسألة يظهر للشيخ نايف اليحيى قوة كلا القولين، والأول منهما أحوط، وإن كانت نفس الشيخ تميل لقوة القول الثاني ورجحانه.