أكد معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي عضو هيئة كبار العلماء الأستاذ الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي أن الحج أكبر مظهر للاجتماع الإنساني على الأرض، وفي أفيائه يجد المسلمون أعظم الفرص للقاء، وتداول الآراء، وتبادل التجارب، والحوار المثمر المعمق في قضايا المسلمين ومستجداتهم.. وقدوتهم في ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، حين خطب في صعيد عرفة، وفي منى في ثاني أيام النحر، في ذلك الجمع العظيم من المسلمين الذين شهدوا معه حجة الوداع؛ مستثمراً اجتماعهم، فأرسى في خطبته أسس الإسلام وقواعد الشريعة، وضمنها من النصح والإرشاد الاجتماعي ما يكفل عز المسلمين في الدنيا، وسعادتهم في الآخرة، ثم ختمها بقوله: «فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم أيها الناس ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، كتاب الله وسنة نبيه. أيها الناس اسمعوا مني ما أقول لكم اعقلوا تعيشوا، ولا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف. اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟»
جاء ذلك في حديث لمعاليه بعنوان: (المعنـى الحقيقي لاجتماع المسلمين في موسم الحج)، وقال: من أدرك منافع الحج ومقاصده، لن تخفى عليه دلالات اختيار هذا الموسم الحافل، لدخول الإسلام إلى يثرب مدينة النصرة والأنصار، عن طريق إسلام ستة نفر من حجاجها بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منى، ثم مبايعته في السنة بعدها عند العقبة على الالتزام بأحكام الإسلام، ثم مبايعته مرة أخرى على الإيواء والنصرة، فكان الذي تم في منى في الحج اللبنة الأساس في نشأة الدولة المسلمة والأمة المسلمة، وتلاه -عليه الصلاة والسلام- الخلفاء الراشدون، فجعلوا اجتماع المسلمين في الحج موسماً لشهود منافع تعود بالخير على عموم المسلمين.
وأشار معاليه إلى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يرى في موسم الحج أحسن فرصة يستقصي فيها أخبار رعيته ويتفقد شؤون ولاته، فجعله -على ما تفيده رواية ابن سعد وابن شبة- ملتقى للمراجعة والمحاسبة، واستطلاع آراء الرعية في ولاتهم، فيجتمع فيه أصحاب الشكايات والمظالم، والرقباء الذين كان عمر يبثهم في أرجاء الخلافة لمراقبة العمال والولاة، ويأتي العمال بأنفسهم لتقديم كشف بالحساب عن أعمالهم، فكان ينعقد في موسم الحج على عهد الفاروق ما يشبه الجمعية العمومية لقيادات الدولة ومسؤوليها، وكان عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ينتهج هذه النهج، قال ابن كثير في البداية والنهاية: ومما كان يعتمده عثمان بن عفان، أنه كان يلزم عماله بحضور الموسم كل عام، ويكتب إلى الرعايا: من كانت له عند أحد منهم مظلمة، فليواف إلى الموسم فإني آخِذٌ له حقه من عامله.
وشدد معالي الدكتور عبدالله التركي على أن اجتماع المسلمين السنوي في موسم الحج يتيح الفرصة لتجديد التواصل الإسلامي على ثلاثة مستويات: العامة أو الأشخاص العاديون، والقيادات العلمية، وزعماء الأمة ومسؤولوها، فعلى مستوى عامة المسلمين تتوسع لديهم المدارك، ويزداد رصيدهم من التعارف، وتتجدد لديهم مشاعر الرابطة الإسلامية، وتنعقد بينهم أرفع العلاقات الشخصيّة الحميمة، محققة أسمى مظاهر الود والإخاء والتعارف والتآلف، وهذا علاوة على ما ينقلب به الحاج إلى بلده وذويه من زاد إيماني كبير، يمنحه عزماً جديداً على مزيد من التمسك بدينه والعمل بكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فيجمع بين منفعتي الدنيا والآخرة.
وأردف معاليه يقول: ومن المنافع التي يجنيها الحاج في طريقه وصحبته لذوي الفضل من الفضائل الخلقية والآداب الشرعية، ولذوي العلم من علومهم المتنوعة، وقد كان يحصل هذا في الزمن القديم، بصورة وافرة في قوافل الحجيج التي تستغرق الرحلة لديها مدة طويلة تعد بالشهور وربما بالسنين، فقد كانت بمثابة مدارس متنقلة تعقد في منازلها حلقات العلم، فيجد الناس فيها خيراً كثيراً يأنسون به ويستروحون إليه، ويستقصرون به بُعْد الشقة ويستصغرون مفاوزها، وفي رحلة العودة إلى الديار، ينقل الحاج إلى أهله وخلانه ما أفاضه الحج عليه من مشاعر، وما أوجد فيه من تصورات، ويحمل إليهم شعور الانتماء الوجداني إلى المجتمع الإسلامي الكبير، الذي تجمعه وحدة الدين والعبادة، والتاريخ والمصير المشترك؛ ناهيك عن وحدة الشعور، وما ينطوي عليه الوجدان من آمال وآلام.
وأما المتخصصون من ذوي العلم والمعرفة -يواصل معالي الدكتور التركي قائلاً: فيجدون في الحج فرصة يهتبلونها في تداول الفوائد العلمية المختلفة مع النظراء، والتلقي عن الأكابر من ذوي الفضل والسعة، ولعل في السير المدونة للعلماء القدماء، وما انطوت عليه كتب الرحلات التي تكون مكة والحج فيها محطة بارزة وهمزة وصل، ما يقف بنا على تراث زاخر من ألوان الفوائد العلمية، خلال موسم الحج، من الروايات والإجازات في الفنون المختلفة، وحلق التدريس، واستنساخ الكتب، وهذا ما نراه اليوم ماثلاً في صورة جديدة، من نشاط علمي وثقافي تقوم عليه الهيئات والمنظمات الإسلامية، وهو امتداد لإرث تليد أسسه الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- حين جعل من أولوياته تشجيع العلماء والعناية بحلق العلم في الحرمين الشريفين، وسار على نهجه من بعده أبناؤه البررة، فأثمر ذلك ما نشهده في مواسم الحج، من مؤتمرات وندوات وملتقيات نافعة، ومناشط علمية وثقافية تقيمها الجهات التي لها صلة بالحج وشؤونه.
وواصل القول: ومن السنن الحميدة التي سنها ولاة الأمر في المملكة، اغتناماً لهذا الموسم التعبدي، ولأجواء الإيمان والأخوة التي تجلله، الحفل البهيج الذي يتم في منى في ثاني أيام النحر، لاستقبال المسؤولين عن بعثات الحج وكبار الضيوف والشخصيات، في ضيافة كريمة لخادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، وسمو ولي عهده الأمين الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، بحضور كبار المسؤولين في المملكة، تكريماً لهم وتقديراً لجهودهم، وتعبيراً عن صلة الأخوة والمحبة التي تربط المملكة بالعالم الإسلامي، وهكذا يتجلى المعنى الحقيقي لاجتماع المسلمين في موسم الحج، ويتحقق ما لهذه الفريضة العظيمة من مقاصد وحِكم.
وخلص معالي عضو هيئة كبار العلماء الدكتور عبدالله التركي إلى القول: لقد صدق علماؤنا الأولون، في قولهم: ما من حكم في الشرع إلا وله حكمة يهدف إليها، ومعنى معقول يناط به، عقِل ذلك من عقله وجهله من جهله، فالمسلم يذعن لعبادة ربه تعبداً وتسليماً، وهو يعلم أن لله تعالى في شرعته الحكمة البالغة، وهو العليم الحكيم.