يقول توماس هكسلي: «إن الوقت الذي تقرض أسنانه كل شيء لا يستطيع التأثير على الحقيقة».
إن الحقيقة لم يتبلور فحواها إلا بعد ابتكار اللغة التي أعطت العقل الإنساني الامتياز عن بقية الكائنات، فهي كانت بساط سير للتواصل بشكل أسهل من همهمات الإنسان القديم، أوجدت هذه اللغة وكأنها تتنبأ بولادة أجيال سمعية قائمة على الكلمة والحرف متنحية عن الرمح والحجارة..
فقد خلق الله سبحانه الإنسان وخلق معه غريزة حب الاستطلاع, والبحث والتطلع لمعرفة كل ما هو جديد في الحياة, فهي حاجة تعود للفضول البشري وميل فطري للأمن الداخلي والخارجي من خلال تقصي الأخبار، وكما أسلفت منذ إيجاد اللغة وتمكن الإنسان من التعبير نشأت الدوافع الاجتماعية (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا).. «الحجرات»، حيث إن هذه الدوافع تعتبر الوكالة الإعلامية الأولى على الأرض، كأن يذيع للناس ما يشعر به من آراء وآمال ومخاوف, وبالتالي جعلته أكثر التحاما بجسد الواقع وما يدور حوله .
أصبح البشر أكثر وضوحاً وتجلياً, وبالوقت نفسه أكثر قدرة على التخفي والتقنع، «فالكلمات درع افتراضي دائماً» من خلالها انبثقت صفة «الكذب» أو «طوق النجاة اللحظي» كما يريد أن يعتبره البعض، فكان الوعاء الإعلامي للأخبار بينهم هي الكلمات المباشرة ليس إلا.
ومن خلال الاستناد إلى ما نطق به التاريخ ووثقه، فإن حقول الصحافة والإعلام قديمة قدم الأرض، فكانت النقوش الحجرية الأثرية في الصين ومصر ليست سوى ضرب من ضروب الإعلام، ولعل أوراق البردي منذ أكثر من أربعة آلاف عام كانت نوعا من وكالات النشر والأنباء في العصور السحيقة.
كانت الأخبار في تلك العصور الأولى مخلوطة ومزدوجة ما بين الحقيقة والواقع، وما بين مخطوطات الخيال والوهم، تماهيا مع متطلبات الآذان الصاغية في تلك الحقبة عبر مختلف المواقع الجغرافية، تأرجحت حكاياتهم ما بين الترهيب والإبهار بغية التسلية والتعليم، ومن أبرزها أساطير البطولة والقوة والشهامة، حيث هذا اللون من الأخبار يعتبر من الإرهاصات الإعلامية الأولى للإنسان، فهي شعار وأيقونة لكل حضارة بائدة بشكل مستمر حتى الآن، فهذه القصص من أكثر الأمور تداولاً بين الناس بل هي كالقطعة الأثرية التي كلفت الأجيال بحفظها ورعايتها.
قال الرسول صلوات الله وسلامه عليه: (آفة الحسب الافتخار والعجب)، هناك أجيال بالغت في تقديس ما عمله السابقون إلى درجة ضمور عظام إرادتهم عن عمل أي شيء آخر يمجده القادمون، إنها الإعاقة التي يعجز عنها خبراء الطب فهي غير قابلة للتشخيص, فالمحكات جميعها تنحصر في شيء واحد (هو أن تنبهر فحسب)، ليس الأمر هو عدم رؤيتهم للحل، بل عدم رؤيتهم للمشكلة من أساس.
وبالنظرة العملية للناس فأنت قد تستشف أنك بين وكالات إعلامية فردية ذاتية، كل شخص منهم يحمل في ادراجه سبقا مهما عن نفسه، فالبعض يريد أن يبرهن لك وينظف أذنك بأخبار تذهلك إما عنه أو عن أسلافه، متجاهلا للدائرتين المركونتين في أعلى الوجه، التي هي أكثر منهجية في تصديق ما يروى (فالعين تكذب ما يقال قبل اللسان).
إن أصدق نشرة أخبار ستظهر للناس لاحقاً تكمن في كل ما قد تسخره لنفسك الآن, فنحن كما قال فيكتور هوجو: « لا ندرك حقيقتنا إلا بما نستطيعه من أعمال».
البعض تناسى أن الوسائل السمعية للإعلام لم تعد رائجة، فمن يعد يسمع الراديو الآن؟!...إنه زمن مرئي بشكل مطلق، ليس ما نقوله هو ما يمجد الأساطير، بل ما نفعله تجاهها ونعيده على مرأى الجميع من جديد، قد تكون الفكرة واحدة لكن دواعي استخدامها مختلفة، فالأساطير الملهمة كالفأس.. إما أن نستخدمه بأنفسنا لعمارة الأرض أو نستخدمه على الآخرين ونبيدهم فوقها!.