لوعدنا قليلاً إلى تاريخ هذا الفن (السيرة الذاتية) لوجدنا أنّ أول من كتب فيه الأديب الفرنسي الشهير جان جاك روسو الذي أرسى قواعد هذا الفن معلناً ريادته له عام 1700م حين صدور الاعترافات وتبعه بعد ذلك زمرة من الأدباء والشعراء في أوروبا.. حتى إذا نفذت إلى أدبنا العربي وتمثلت في كتاب «الساق على الساق» للشيخ أحمد فارس الشدياق الذي صدر في باريس عام 1855وحمّله الكثير من سيرته وملاحظاته اللغوية. والذي يعدّ أوّل سيرة ذاتية تمّت صياغتها في ختام القرن الثامن عشر.
كما كتب الأديب المصري عبدالرحمن شكري كتابه «الاعترافات» عام 1916م وطبعه في الإسكندرية، لكنّ ريادة هذا الفنّ تبقى للدكتور طه حسين إذ يُعرف بأنّه الأب الروحي لهذا الفن في الأدب العربي الحديث وذلك حينما صدر الجزء الأول من كتابه «الأيام» عام 1926م وتبعه الجزء الثاني الذي صدر عام 1939م، وهي أشهر سيرة ذاتية في الأدب المعاصر.
وفي السعودية كتب الأديب «أحمد السباعي» كتابه «أبو زامل» الذي صدرت طبعته الأولى عام 1376هـ ثم غيّر عنوانه إلى «أيامي» وتبعه الأديب محمد عمر توفيق بتسجيل سيرته في كتاب حمل عنوان « 46 يوماً في المستشفى» كما كتب الأديب حسن محمد كتبي سيرته في «هذه حياتي» عام 1379هـ، وفي عام 1959م صدر للشاعر حسن نصيف كتابه «مذكرات طالب سابق»، ثم صدّر الناقد عبدالعزيز الربيع سيرته الذاتية في كتاب «ذكريات طفل وديع» عام 1397هـ عن نادي المدينة المنورة الأدبي، أما محمد حسين زيدان فقد سجّل سيرته في كتاب «ذكريات العهود الثلاثة» وصدر عام 1408هـ، فيما نشر عزيز ضياء سيرته الذاتية بعنوان «حياتي مع الجوع والحب والحرب» في ثلاثة أجزاء عام 1410هـ، كما دوّن الشاعر حسن قرشي أيامه مع الشعر في كتابه «تجربتي الشعرية» عام 1392هـ وهو ما شجع الشاعر غازي القصيبي ليدون تجربته هو الآخر في كتابه «سيرة شعرية» وبعدها سجّل تجربته العملية والإدارية في كتابه الأشهر «حياة في الإدارة «.
وبما أنّ الحديث هنا عن كتابة «السيرة الذاتية» عند الأدباء، فإنّ الإشارة إلى مقتطفات نشرت عن كتاب صدر عن مشروع «كلمة» التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث بعنوان: (ترجمة النفس: السيرة الذاتية في الأدب العربي) الذي تعاون على إنجازه تسعة باحثين من أساتذة الأدب العربي والدراسات الإسلامية في الجامعات الأميركية، تحرير دويت راينولدز وترجمة سعيد الغانمي تبدو مهمّة، للتعرّف على الأسباب التي يمكن أن تكون دوافع رئيسة خلف كتابة السيرة الذاتية لدى الأديب. حيث ورد فيه أنّ السيرة الذاتية عربيا ولدت على شكل خطاب مدرسي وديني لا سيما في القرنين الخامس والسادس عشر. ولتأصيل هذا الفن تاريخياً تنتقل الدراسة إلى البحث في أدبية هذه النصوص وتصويرها للذات، من حيث الحياة العاطفية للمؤلف وسلوكه ودوافعه وتقييم شخصية المؤلف أوجنسيته، كما أشار الكتاب إلى أنّ العرب والغرب يكتبون سيرهم لدافعين مختلفين يعبران من خلالهما عن الخلفية الثقافية والرؤية الحضارية لكل منهما فبينما يرى كاتب السيرة الذاتية الغربي أنه يورد أخطاءه حتى يتحاشى الناس السقوط فيها، يرى كاتب السيرة العربي أنه يجب الاقتداء بسيرته التي هي من نعم الله عليه.
لماذا يكتب أديب سيرته؟!..
بناءً على ماسبق، يمكننا الإشارة إلى أنّ الأدباء لدينا يكتبون سيرهم الذاتية لأسباب كثيرة، تأتي في مقدّمتها، الكشف عن عناصر العظمة في شخصية كاتبها، وبيان نظرته للحياة نفسها، كي يتعاطف معه القارئ من خلال الاطلاع على تجربته ونقلها للآخرين. كما أنّ كتابة السيرة الذاتية تحقق الغاية المرجوّة التي يسعى إليها صاحبها في نقل التجارب التي خاض غمارها بنقلها من داخل نفسه إلى خارجها، وهو بهذا يعرض خبرته على الآخرين بغية مشاركتهم له فيها. إضافة إلى ضرورة معرفة القراء للمناخ الذي ظهر ونما فيه أدب أديب معين, وهناك دوافع نفسيّة إذ وراء كلّ سيرة هذا الدافع النفسي أو ذاك، وغاية مرصودة لا يعلن عنها صاحبها.. فالأديب كما يقول ميخائيل نعيمة في كتابه (سبعون، 1959) أحياناً يشعر بلذة (إذا هو تعرّى أمام إخوانه الناس من جميع أسراره وأوزاره، فبات وكأنّه بيت من الزجاج (كلّ ما فيه مكشوف للعيان، إلاّ ما كان منه أبعد، أو أعمق، من متناول أبصار الناس وأفكارهم)».
فيما كتب الدكتور يحيى إبراهيم عبد الدايم عن هدف ميخائيل نعيمة من كتابة سيرته الذاتية، بأن قال: «فالغاية الحقيقية التي يهدف إليها من وراء ترجمته الذاتية، هي -على ما يبدو لنا- تفسير نظرته الكونية، وشرح فكره الصوفي الذي ينبع من نظرته الكونية الشاملة إلى الحياة والأحياء، القا ئمة على فكرة (وحدة الوجود) وهي نظرة انتهى إليها بعد تطواف طويل.
زاهر يكتب سيرته.. فلماذا ؟!:
لعلّ هذه التوطئة تمكننا من السؤال: لماذا كتب الدكتور زاهر بن عواض الألمعي سيرته الذاتية «رحلة الثلاثين عاماً»؟!..
وللإجابة على هذا السؤال، ينبغي أن نقرأ بعض ماكتبه الدكتور زاهر في مقدمة كتابه «رحلة الثلاثين عاماً»، حيث كتب: «ليس أصعب على الإنسان من أن يكتب للناس شيئاً يتعلق بحياته الشخصية لأنّه يُعتبر في أعراف الناس حديثاً عن النفس وقد يقع دون قصد في الإفراط أو التفريط، والاعتدال في ذلك أمر نسبي تختلف فيه معايير الناس».
وقد أحتاط الدكتور زاهر من هذا اللوم وربما العتاب بقوله: «بيد أنّ السير الذاتية في مجتمعاتنا لا تزال تحاط بشيء من الحرج عند كتابتها إذ إنّ الكثير من الناس لا يبالي أن يصفها بأنها مجرد حديث عن النفس حتى لو تطابقت مع الحقيقة والواقع في حياة الكاتب أو صاحب السيرة».
ولأنّه كتب سيرته لعامة الناس فقد اعتذر لقرائه من النخبة من طبقات المثقفين بقوله: «وأعتذر عن الأسلوب الذي كتبت به هذه الكلمات» أعني رحلة الثلاثين عاماً «.. فقد كان أسلوباً متواضعاً ليكون في متناول عامة الناس ولو ذهبتُ محاولاً تطبيق قواعد الكتابة التي تُرضي الخاصة من طبقات المثقفين لظهر نقيض مقصدي وبدأ التكلف في الألفاظ والتعابير».
ويضيف: «آثرت أسلوب البساطة وسرد القصة حسب ترتيبها الزمني على نمط لا يظهر فيه تكلف أو غرابة أو التواء وقد أورد بعض النكت والطرائف في مواقع مختلفة محاولا تبسيط العبارة وإيضاح الفكرة ما استطعت إلى ذلك سبيلا «..
إلاّ أنّ أهميّة هذا الكتاب تكمن فيما ذكره الأديب والباحث أحمد التيهاني في كتابته عن رحلة الثلاثين عاماً للدكتور زاهر بقوله: «وتكمن أهمية هذا العمل في: ريادته التاريخية، حيث يعد أول إصدار سعودي في القرن الخامس عشر الهجري، وفي أسلوبه الواضح، وما تضمنه من أحداث تاريخية مهمة، ومواقف لها دلالاتها الإنسانية، ووعي كاتبه بالنوع الأدبي الذي أقدم على كتابته، وحرصه على إدراج عدد من قصائده الأولى، وصور من بعض قصائد أقرانه بخطوط أيديهم، وبعض الوثائق الصحفية لشيء مما نشرته الصحف المحلية عند حصوله على درجة الدكتوراه».
وبناءً على ما ورد من النقولات السابقة نستخلص أنّ رحلة الثلاثين عاماً كتبت بأسلوب بسيط، كان هدفها عامة النّاس لا خاصّتهم،كما أنّ كتابة الرحلة جاءت وفق سرد لا يختلف فيه منطوق الكلام عن مكتوبه، وربما كانت هذه ميزة في كتابة هذا العمل. كما أنّ كتابة الرحلة لم تكن تهدف إلى الاستعراض، أو بيان الحصيلة الثقافية من القراءة والاطلاع ومجالسة أرباب الفكر كما نقرأ في سير ذاتية أدبيّة كثيرة، بيد أنّها كُتبت من أجل تجارب ناجحة في الحياة. أنتجت لنا هذا السؤال المشروع : لماذا كتب زاهر بن عواض الألمعي سيرته؟!.
كتابة السيرة الذاتية لدى زاهر بن عواض الألمعي لم تكن تهدف إلى تمجيد ذاته بقدر ما كان راغباً في تقديم العديد من التجارب الصعبة التي مرّت به وأراد تبسيطها في حياة الآخرين وعيونهم، لقد كتب عن ذاته بتواضع جمّ، وصدق لا يختلف حوله اثنان، لم يرد زاهر بن عواض الألمعي في رحلته تضخيم ذاته -كما يفعل غيره- ولا التباهي بما لديه كما قرأنا في أكثر من سيرة ذاتية لأديب أو شاعر غير ذات مرّة.. كتب بصدق عن ما يملك في بداية حياته في طلب العلم والمعرفة، فقال: «إنّ حصيلتي من التعليم لا تتجاوز قراءة جزأين من القرآن الكريم ومعرفة مبادئ التهجي والكتابة وأنا في الخامسة عشرة من عمري».
كتب زاهر بن عواض الألمعي سيرته الذاتيه، ليقول لنا: «لو أحسسنا جميعا بمسؤولياتنا في الحياة ونأينا بأنفسنا عن الأحقاد والضغائن والأنانيات وابتعدنا عن أسباب الفرقة وأساليب المهاترات وصرفنا جهودنا في بناء هذا المجتمع فكراً وسلوكاً وتطوراً وحضارة وقوة ومهارات لسبقنا أمم الأرض جميعا».
كتب رحلته، ليقول لنا: «بذلت قصارى جهدي في البحث والتحصيل فيما سلف من حياتي الدراسية على الرغم مما أحاط بها من صعوبات لأكون فرداً عاملاً في هذا المجتمع أحس بأحاسيسه وأتفاعل مع تفكيره وآرائه وأساهم في بنائه حسب الفرص المتاحة وتلك رسالة كل فرد فليختر لنفسه الإقدام أو الإحجام».