لاخلاف بين المؤرخين والكتاب والباحثين - سعوديين وغير سعوديين - على أن الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- قام بإنجاز وطني عربي إسلامي غير مسبوق في عصره، بل وبعد عصره، ذلك أن رحلة التوحيد التي قادها بشجاعة وهمة واقتدار، على مدى ما يقرب من ثلاثة عقود - بدأت بدخوله الرياض (1319هـ - 1902م)،
وانتهت بإعلانه عن المملكة العربية السعودية يوم (22 جمادى الآخرة 1351هـ الموافق 23 سبتمبر 1932م)، وهو اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية - معرضاً نفسه ومن
معه من الرجال المخلصين لخطر القتل، أو الأسر، أو الإصابة من قبل خصومه.. تعد معجزة بكل قياسات عصره وما بعد عصره، ليس لأن ما وحده تحت راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله) من أراضي الدولة يفوق مساحة الدول الأوروبية مجتمعة، وليس لأن جل هذه المساحة أراض صحراوية شاسعة لا كلأ فيها ولا ماء، تبتلع إلى غير رجعة من لا يعرف دروبها وفيافيها ويتمرس على العيش والحياة فيها، وليس لأن من قام بتوحيدهم من القبائل والأسر يفوق الحصر عدداً ويستعصي على الوفاق والاتفاق قناعة وفكراً، وتتنافر كياناته طاعة وولاء، وتكثر زعاماته بحق أو بغير حق، ولكن لأن ما كانت البلاد تعيشه قبل توحيدها من جهل وفقر وفوضى وتشدد وتعصب وتناحر وتقاتل، أصعب من أن يتغلب عليه ويُستبدل بواقع جديد يسوده الأمن، والعدل، والمساواة، والتعاون، والتعاضد والالتفاف حول قيادة موحدة من أجل تحقيق هدف موحد، وهو تأسيس دولة عصرية حديثة على أنقاض الشتات والتمزق والتخلف الفكري والروحي والاجتماعي والسياسي، تحمل اسم (المملكة العربية السعودية) لتصبح فيما بعد قبلة المسلمين والعرب، ليس لأداء صلواتهم وأداء فريضة حجهم وعمرتهم وزيارة نبيهم -صلى الله عليه وسلم- فحسب، بل من أجل توحيد صفهم، وتقريب وجهات نظرهم، والدفاع عن قضاياهم ووجهة نظرهم، والإسهام في رفع الضرر عنهم، والتخفيف من أعبائهم.
ولم ينقطع الدور التاريخي والاستراتيجي الذي قام الملك عبد العزيز لشعبه في الداخل، وأمته في الخارج بوفاته -طيب الله ثراه- بل ظل دوره موصولاً مستمراً، حيث اضطلع به أبناؤه الذين تولوا مقاليد الأمور من بعده، الملوك: سعود وفيصل وخالد وفهد -يرحمهم الله جميعاً-، حيث كان لكل منهم دوره في توطيد أركان المملكة وتدعيم أوضاعها الداخلية عبر الاهتمام بتلبية مطالب الشعب السعودي وتطوير ما يقدم له من خدمات تعليمية وصحية وعمرانية واجتماعية، وتشجيع الدولة للأنشطة الصناعية والزراعية، فضلاً عن تدعيم المكانة الخارجية للمملكة عربياً وإسلامياً وعالمياً.
وما زال هذا الدور التاريخي والاستراتيجي موصلاً وممتداً في عهد سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز -يحفظه الله-، الذي قفز بالمملكة إلى مصاف الدول المتقدمة المؤثرة، ليس في محيطها الاقليمي وحده، بل وفي المحيط العالمي كله، فقد قاد -يحفظه الله- في الداخل طفرة علمية عبر إنشاء المزيد من الجامعات والمدن الجامعية، والتوسع في سياسة الابتعاث للخارج، لتخريج جيل مسلح بمعطيات العلم الحديث والتقانة المتطورة.
كما قاد -يحفظه الله- طفرة صحية بالتوسع في إنشاء المدن الطبية الكبرى في كافة مناحي المملكة وتزويدها بما تحتاج إليه من متطلبات طبية، وكفاءات بشرية، واحتياجات دوائية، فضلاً عن إنشاء المزيد من مراكز الرعاية الأولية والمستشفيات المتخصصة ليجد كل مواطن ومقيم على أرض المملكة فرصة العلاج.
وكان للصناعة نصيبها في فكر سيدي خادم الحرمين الشريفين ورؤيته، حيث تبنى -يحفظه الله- استراتيجية إقامة المدن الصناعية والتقانية الكبرى في أماكن متعددة من مدن المملكة، لتتهيأ المملكة من خلالها إلى دخول نادي الدول الصناعية الكبرى في العالم في أقرب وقت ممكن.
ولم يكن لتلك الطفرة ألا تجعل من الإنسان هدفها الرئيس وغايتها المنشودة، حيث حرص سيدي -يحفظه الله- على الارتقاء بالمستوى الاجتماعي للمواطن، وذلك من خلال: رفع مستوى معيشته بزيادة الدخل الوظيفي، والضمان الاجتماعي، والمعاشات، وتوفيرفرص العمل للعاطلين من الشباب، والبدء في مشاريع وطنية غير مسبوقة كالإسكان التعاوني.. إلى غير ذلك من الخطوات التي رفعت عن كاهل المواطن الكثير من الأعباء، ووفرت له سبل الحياة الكريمة والعيش الهانىء المستقر.
أما على المستوى الخارجي، فقد كان لمساعيه الخيرة في لم الشمل العربي المهدد بالتصدع دور بارز، حيث أسهم تدخله في وقف بعض الحروب الأهلية التي كان شبحها يلوح بين الحين والآخر مهدداً شعوب المنطقة بالفوضى والدمار كما كان لتأييده ومساندته - السياسية والاقتصادية - لبعض الدول العربية سبباً رئيساً لتجاوز أزماتها وتخطي محنتها الداخلية بسلام.
فيما كان دعمه ومساعدته للدول الإسلامية - مدفوعاً بدينه وعقيدته - وتبرعه للعديد من دول العالم المنكوبة - مدفوعاً بإنسانيته - سبباً لتخفيف معاناة تلك الشعوب ومآسيها.
وانطلاقاً من مكانة المملكة ووضعها الديني المميز بين الدول الإسلامية، فقد قاد -يحفظه الله- حملة عالمية لمواجهة الإرهاب وتجفيف منابعه والقضاء على أسبابه، بتبنيه -أيده الله- الدعوة إلى حوار الحضارات وتقارب الثقافات ونزع فتيل الكراهية والبغضاء بين شعوب العالم بسبب الأديان، التي لم تنزل إلا لجمع الناس على كلمة سواء، وتنقية نفوسهم من آفات البغض والشحناء والكراهية.
إن وطناً أولئك قادته، وتلك رسالته، وهذه منزلته ومكانته، لجدير بأن يحتفل به شعبه، ليس يوماً وطنياً واحداً، وإنما أيام العام كله.
طيب الله ثرى مؤسس الوطن، صقر الجزيرة العربية الملك عبد العزيز، ورحم الله أبناءه الملوك: سعوداً وفيصلاً وخالداً وفهداً، الذين كانوا خير خلف لخير سلف، في محافظتهم على الأمانة، وزيادة الوطن عزة ورفعة ومكانة، وحفظ الله تعالى سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي حافظ على نهج المؤسس، ووطد أركان الوطن ورفع بنيانه وأعز شعبه ومواطنيه، وأعلى شأن بلاده بين دول العالم أجمع، وحفظ الله سيدي سمو ولي العهد الأمين الأمير سلمان بن عبد العزيز وسمو ولي ولي العهد الأمير مقرن بن عبد العزيز، وحفظ الله وطننا الغالي وشعبنا الحبيب آمناً، سالماً، مطمئناً.