تجول بي الذاكرة البعيدة إلى مصور كان يتجول في الحواري في موسم الأعياد لالتقاط الصور التذكارية مقابل دراهم معدودة، وكان يتحكم بكاميراته البولورويد (Polaroid) الفورية وسط اندهاش الصغار من براعته في التصوير على الرغم من كآبة المنظر!!
التصوير مهنة ارتبطت بالصحافة، وخطورة الصورة يعرفها كل من عمل في بلاط صاحبة الجلالة حيث يقولون رب صورةٍ أبلغ من خبر، الآن لم تعد الصورة حكراً على مصور صحفي مختص، أصبح الأطفال بإمكانهم التقاط الحدث الذي ربما يغير مسار الكون، ويتوقف الأمر على المصادفة وحدها وقليل من الحظ الذي يبتسم مع الفرصة المناسبة، أصبح المواطن - باختصار - صحفياً آخر وإن شئتم قولوا عنه إنه محترف، والدليل أحداث الربيع العربي وما صاحبها من صور وأحداث رسمت خريطة المستقبل بأصابع مواطنين كل حظهم من الصحافة أنهم يحملون كاميرا في جيوبهم سهلة الحمل والتنقل ترافقهم في جوالاتهم، وبإمكانهم نشر صورهم في أي موقع في العالم، فوداعاً لأسوار الصحافة الرصينة، ووداعاً لمقص الرقيب، ووداعاً لكل عرف صحفي، فالصورة الثابتة لم تعد موجودة، ولا يهم الإضاءة والصوت، المهم هو نقل الحدث في وقت الحدث في الوقت المناسب، ولا يهم جودة وجمال المشهد المصور، فالأيدي مهزوزة والكاميرا تتأرجح بين يدي شاب عربي هارب من وابل القنابل وأزيز الرصاص، إنه المشهد الحي بكل تفاصيله، وبعد تساقط أوراق الربيع العربي في فصول خريف الأمل الديمقراطي اتجه المواطن الصحفي إلى واقعه التعيس عبر صفحات التواصل الاجتماعي وعبر الواتس اب، ليسخر من ذاته بل ليجلد ذاته في مشهد يعقب كل نكسه فكرية، وانتشرت عبارة مثل ( شعب منتهي، شعب ماله حل...)، وأخذ شعبنا على الأخص يجلد ذاته حتى ليخيل إلينا أننا نكره بعضنا بل نكره أنفسنا، وبدأت المقارنات بيننا وبين الرجل اللبناني على سبيل المثال، وسخر الرجل أبو سروال وفنيلة من أم ركبة سوداء، وتشكلت صورة نمطية في الأذهان سترمي بظلالها على الأجيال القادمة التي ينتظرها مستقبل مهزوز تماماً كمشهد يهتز بيد مصور هارب وخائف وينتظر المجهول في رحلة هروب لا تنتهي على خلفية أنفاسه الهادرة.
أفيقوا أيها المواطنون الصحفيون!
ما هذه الصور التي تريدون نشرها وترسيخها، لماذا تقسون على أنفسكم؟ ومن المستفيد من هذا الهراء؟ لماذا تروجون الشائعات قبل كل موسم وفي نهايته؟ يقال ان قائداً عسكريا أطلق شائعة قوية في عنبر لأحد السجناء مفادها أن هناك غازا ساما سيتم نشره في العنبر عقاباً لهؤلاء المجرمين، وبعد أيام مات أحد السجناء وانتشرت الشائعة أن ضحايا الغاز قد بدؤوا، ثم مات البقية، وقد قتلهم الوهم، وقتلتهم الصورة النمطية التي بروزوا أنفسهم بداخلها، هذا ما سيحدث تماماً في تلك الصور النمطية التي يبثها المواطن الصحفي يومياً عن نفسه وعن مجتمعه وعن بلده في غفلة من ضميره الحي.